علمٌ وفكر

في مباحث الخير والشر (1)


صدر الدين الشيرازي ..
إن الخير ما يتشوقه كل شيء ويتوخاه ويتم به قسطه من الكمال الممكن في حقه، ويكون كل ذات مولية وجد القصد إلى شطره في ضروريات وجودها وأوائل فطرتها وفي مكملات حقيقتها ومتممات صفاتها وأفعالها وثواني فضائلها ولواحقها، فالخير المطلق الذي يتشوقه كل الأشياء ويتم به أو بما يفيض منه ذواتها وكمالات ذواتها؛ هو القيوم الواجب بالذات (جل ذكره) لأنه وجود مطلق لا نقص فيه ونور محض وبهاء محض وتام وفوق التمام، فيعشقه ويتشوقه كل ممكن بطباع إمكانه وكل موجود دونه بطباع نقصانه، فيخضع له كل معلول بقوام معلوليته وفقره، فكل ما سواه لا يخلو من شوب نقص وفقر، فلم يكن شيء مع المعلولات خيراً محضاً من كل جهة بل فيه شوب شرِّية بقدر نقصان درجته عن درجة الخير المطلق، الذي لا ينتهي خيريته إلى حدّ ولا يكون فوقه غاية وللشرّ معنى آخر هو المصطلح عليه، وهو فقد ذات الشيء أو فقد كمال من الكمالات التي يخصه من حيث هو ذلك الشيء بعينه، والشرّ على كلا المعنيين أمر عدمي وإن كان له حصول في بعض كحصول الإعدام والإمكانات للأشياء ضرباً من الحصول في طرف الاتصاف، ولأجل ذلك قالت الحكماء إن الشرّ لا ذات له بل هو أمر عدمي، أما عدم ذات أو عدم كمال ذات، والدليل عليه أنه لو كان أمراً وجودياً لكان إما شراً لنفسه أو شراً لغيره لا جائز أن يكون شراً لنفسه، وإلاّ لم يوجد لأن وجود الشيء لا يقتضي عدم نفسه ولا عدم شيء من كمالاته، ولو اقتضى الشيء عدم بعض ما له من الكمالات، لكان الشر هو ذلك العدم لا هو نفسه، ثم كيف يتصور أن يكون الشيء مقتضياً لعدم كمالاته مع كون جميع الأشياء طالبة لكمالاتها اللائقة بها!
والعناية الإلهية كما أشير إليها لا تقتضي إهمال شيء، بل توجب إيصال كل شيء إلى كماله، فيكون الأشياء بطبائعها وغرائزها طالبة لكمالاتها وغاياتها لا مقتضية لعدمها ونقصانها ولا جائز أيضاً أن يكون الشرّ على تقدير كونه وجودياً شراً لغيره، لأن كونه شراً لغيره إما أن يكون لأنه يعدم ذلك الغير أو يعدم بعض كمالاته، أو لأنه لا يعدم شيئاً فإن كان كونه شراً لكونه معدماً للشيء أو لبعض كمالاته فليس الشر إلاّ عدم ذلك الشيء أو عدم كمالهِ لا نفس ذلك الأمر الوجودي المعدم، وإن لم يكن معدماً لشيء أصلاً فليس بشرّ لما فرض أنه شرّ له فإن العلم الضروري حاصل بأن كلما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كماله، فإنه لا يكون شراً لذلك لعدم استضراره به، وإذا لم يكن الشر الذي فرضناه أمراً وجودياً شراً لنفسه ولا شراً لغيره، فلا يجوز عدّه من الشر وصورة هذا القياس على نظمه الطبيعي هكذا لو كان الشر أمراً وجودياً لكان الشرّ غير شرّ، والتالي باطل فكذا المقدم وبيان اللزوم وبطلان التالي ما مر تقريره فعلم أن الشر أمر عدمي لا ذات له إما عدم ذات أو عدم كمال ذات.
وأنت إذا تأملت واستقربت معاني الشرور وأحوالها ونسبها، وجدت كلما يطلق عليه اسم الشر لا يخرج من أمرين، فإنه إما عدم محض أو مؤد إلى عدم، فيقال شر لمثل الموت والجهل البسيط، والفقر والضعف، والتشويه في الخلقة، ونقصان العضو والقحط وأمثالها من عدميات محضة ويقال: شر لما هو مثل الألم والحزن والجهل المركب، وغير ذلك من الأمور التي فيها إدراك لمبدء ما وسبب ما لا فقد لمبدء ما وسبب ما فُقِد، فإن السبب المضر المنافي للخير والكمال الموجب للفقد والزوال قسمان.


القسم الأول:
ما كان مواصلا للمضرور به المؤلف من جهة وجوده، فيدركه بدرك عدم الصحة والسلامة كمن يتأذى بفقدان اتصال عضو بوجود حرارته ممزقة له، قطّاعة لذاعة فإنه من حيث يدرك فقدان الاتصال وزوال الصحة بقوة شاعرة في مادة ذلك العضو وطبيعته _يدرك بتلك القوة بعينها السبب المؤذي الحار أيضاً، فيكون هناك إدراكان: إدراك أمر عدمي على نحو إدراك سائر الأمور العدمية، وإدراك أمر وجودي على نحو إدراك سائر الأمور الوجودية، وهذا المدرك الوجودي ليس شراً في نفسه بل بالقياس إلى هذا الشيء وأما المدرك الآخر من عدم الكمال وزوال الاتصال فهو شر في نفسه، وليس شراً بالقياس إليه فقط حتى يتصور له وجود ليس يكون بحسبه شراً، بل وليس نفس وجوده إلا شراً فيه، وعلى نحو كونه شراً فإن العمى لا يجوز أن يكون إلاّ في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلاّ شراً، وليس له جهة أخرى يكون بها غير شر، بخلاف ذلك الأمر الوجودي المضر المؤلم فإن الحرارة المؤذية أو الخلط اللذاع أو السم القاتل يتصور لها نحو آخر من الوجود لا تكون بحسبه شراً بل خيراً.


والقسم الثاني:

ما كان غير مواصل للمضرور كالسحاب المظل المانع لإشراق الشمس على المحتاج إليه في استكماله بالتسخين، وكالبرد المفسد للثمار والمطر المانع عن تبيض الثياب، فإن كان المفتقر إلى الاستكمال دراكاً أدرك فقد كمال وعدم انتفاعه، ولكن لم يدرك _من حيث أنه يدرك لذاك _ أن السحاب قد حجب أو المطر قد منع أو البرد قد أفسد ثماره، بل من حيث أنه مدرك بقوة أخرى كالبصر أو غيره، فإن المفتقر إلى التسخن بشعاع الشمس مثلا مزاج بدنه بقوة اللمسية، وهي بالحقيقة عادته للكمال اللمسي وفاقدة للسلامة والاعتدال المزاجيين، وهي أيضاً مدركة لهذا الشرّ الحقيقي الذي هو العدم والفقدان، وأما المدرك للمزيل المانع كالسحاب ههنا؛ فهو البصر لا قوة اللمس، فليس هو من حيث أنه مبصر متأذياً عن السحاب ولا متضرراً منه ولا منتقصاً، بل من حيث كونه ذا لمس وذا قوة لمسية، والقوة اللمسية لا تدرك السحاب المعدم لكماله، بل الذي تدركه هذه القوة هو عدم الصحة وزوال الكيفية الملائمة فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم بل عدم واصل إلى الشيء، ولا كل عدم واصل إليه فإن عدم الحلاوة في قوة السمع والبصر ليس بشر لهما بل عدم واصل اليه، يكون عدم مقتضى طبيعته من الكمالات التي تخص لنوعه وطبيعته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة