مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

الأخلاق في الرؤية الإسلامية (2)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
ملاك تشخيص الأخلاق الفاضله والرذيله
الأخلاق شأن من شؤون النفس الإنسانية، يكون المحمود منها أو المذموم عادة تابعاً لموافقته أو عدم موافقته لكمال النفس. وهذا يعني أن كل خلق يوافق كمال الإنسان الحقيقي ويساعده على تحقيق الهدف النهائي للخلقة، فهو خلق حميد. وما عدا ذلك فهو خلق مذموم. ولذلك ينبغي أولاً تشخيص المرحلة النهائية للكمال الإنساني، لنتمكن من تحديد ملاك تمايز الأخلاق الحميده عن الخصال السيئة.
إن بعض السطحيين وضيقي الأفق، يعتقد بأن حقيقه الإنسان هي هذا البدن المادي المحسوس، وأن الروح تعتبر من عوارضه وخواصه. وتعتبر هذه الفئة من الناس ملاك حُسن الخلق وسوئه في مدى موافقته أو عدم موافقته للكمالات الجسمانية والشهوات الحسية فحسب، ولا تؤمن باستقلالية العفة والحياة والغيرة والعدالة وسائر الملكات الفاضلة. أي أنهم يقبلونها إذا ما كانت وسيلة لنيل المنافع المادية والأمور الدنيوية. والشيء نفسه بالنسبة لعبادة الشهوة والهوى والتملق والمكر والخداع وسائر الأخلاق السيئة، فهم لا يؤمنون بقبحها. حتى الظلم والتعدي لا يعتبرونه قبيحاً ذاتاً، إلاّ إذا كان يسيء بصورة غير مباشرة إلى منافعهم المادية ومقاصدهم الدنيوية. وأساساً لا يولون أدنى قيمة لمطلق الكمالات النفسانية والعواطف الإنسانية النبيلة، والمتعة الذهنية، التي هي أقوى بمراتب من اللذائذ الحسية وأشرف منها.
وهناك فئه أخرى من أتباع هذا المذهب تعتبر الحسن والقبح مرهوناً بغالبيه المجتمع، إذ تقول: في أي مجتمع. ومن الممكن أن يتصف هذا الأمر في مجتمع آخر بالقبح، ويكون محل نفرة الغالبية.
بيد أن الإسلام يعتبر الحياة الإنسانية أكرم وأوسع بكثير من هذه الحياة الفردية المحدودة والزائلة .. الإسلام يعتبر الدنيا مزرعة الآخرة، وبمثابة مسير بطيًّه يقترب الإنسان من الغاية الأبدية .. الإسلام يعتبر عالم الطبيعة قياساً بعالم الآخرة، كالنسبة بين رحم الأم و هذا العالم، بل أدنى وأكثر محدودية .. الإسلام يعتبر الروح الإنسانية وجود شريف وسام يليق بالسمو والتعالي. أما البدن فليس أكثر من وجود آلي. بيد أنه ينبغي أن لا نتوهم أن الإسلام أهمل الكمالات الجسمانية والشؤون البدنية، ويعتبر ذلك كبعض المذاهب الإفراطيه زائداً تماماً، بل ومانعاً من التقدم والرقي .. لأن نظام الممكنة، وكيف لا يكون كذلك والمشرف على تنظيمه حكيم مطلق.
ولكن يجب أن لا نتوقع أن يهتم الإسلام بالبدن الاهتمام نفسه الذي يوليه للنفس، وأن يعطي للأمور الجسمانية قيمة مستقلة مثلما يعتني بالأمور العقلية والكمالات المعنوية، لأنه في مثل هذه الحال يكون قد ظلم المعنويات ولم يعطها حقها .. وعليه فالقيمة التي يمنحها الإسلام للبدن، قيمة آلية طبقاً لناموس التكوين ومقتضي نظام الحقائق. أما الكمال المستقل الذي يؤمن به الإسلام للإنسان، ونظّم تعاليمه وأحكامه وفقاً لذلك، ووضع ذلك ملاكاً لحسن الأخلاق و قبحها؛ فهو علي درجات متباينة، ومن يتحلي بها ينعم بالحياة الخالدة. وإن أدنى مراتب هذا الكمال، التمتع باللذائذ الحسية بعد الموت. وأعلى مراتبه إحراز المعرفة الكاملة ونيل مرتبة القرب.
في الحقيقه أن الاسلام يدعو إلى كمال الإنسان النهائي هذا، يعني أعلى درجات المعرفة والقرب. ولكن نظراً لأن النفوس لا تمتلك تلك الهمة اللازمة لتدير ظهرها لجميع اللذائذ الدنيويه والأخروية، وتضع نصب عينها قرب الحق المتعالي فحسب، وتقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين". أو تقول: إلهي لم أعبدك خوفاً من نار أو طمعاً في جنّه، وإنما عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة .. فالجميع ليس لديهم مثل هذه الهمة وليس باستطاعتهم أن يحققوا هذا الكمال النهائي، ولهذا جعل الإسلام لاستعداده، ويرقي إلى المرتبة التي تسمح بها همته .. وعليه فإن ملاك تشخيص الأخلاق الفاضلة والرذيلة في الإسلام، هو في مدى موافقتها أو عدم موافقتها لسعادة الإنسان الخالدة.


منهج الإسلام في تهذيب الأخلاق
المناهج المطروحة في العالم لتهذيب الأخلاق لا تخرج عن ثلاثة:
الأول: المنهج الذي يوجّه رغبات الناس نحو سلسله من الأمور المادية والاعتبارية؛ ولأجل ذلك فإنه يدعوهم إلى الأفعال الحسنة والتخلي عن الأعمال السيئة حتى تروج الملكات الفاضلة بالتدريج، وتزول الأخلاق الرذيلة من المجتمع. كأن يقال مثلاً: إذا كان للإنسان خصال حميدة من قبيل حب الوطن والشجاعة والشهامة والرجولة، فإنه سيكون في حياته محل احترام وتقدير الناس كافة، وبعد الموت أيضاً يبقى ذكره الطيب.
الثاني: المنهج الذي يتمثل في ترغيب الإنسان بكسب الفضائل وتهذيبه من الرذائل، عن طريق تعريف الكمالات العقلية واللذائذ المعنوية والروحية، وكذلك تبيين الدرجات الأخروية والأمل بالنعم الخالدة، والوعيد بعذاب جهنم والعقوبات الالهية .. ويخلو هذا المنهج من نقاط الضعف التي اتسم بها المنهج الأول، كما أن جميع الكتب السماوية تتبعه. وتوجد في القرآن المجيد أيضاً آيات كثيرة توافق هذه الطريقة في التربية والتعليم. وكذلك الأخبار التي وردت عن النبي الأكرم(ص) وأهل بيته الأطهار في مجال الأخلاق، اتبعت هذا الأسلوب والمنهج.
الثالث: المنهج الذي يؤمن بأن قاعدة الأخلاق الفاضلة تقوم على أساس اعتقاد مبدئي أي التوحيد. وبتقوية هذا الاعتقاد وتكميله، تنمو وتترسخ كل الصفات المتفرعة عنه .. والشيء نفسه بالنسبة للأخلاق المنبوذة المبتنية على الشرك، إذ باستئصالها تستأصل جذور المفاسد كلياً .. هذا وإن لكلًّ من التوحيد والشرك مراتب ودرجات، ووفقاً لهذه المراتب يتباين تأثيرهما في تدعيم الأخلاق و تقويتها. وإن إحدى مراتب التوحيد اعتبار الإنسان أن كل شيء هو من قبل الله سبحانه. فالذي تترسخ لديه مثل هذه المعرفه، لا يتطلع إلى ثروة وجاه وسلطة واحترام الآخرين وتقديرهم له. على عكس الشخص الذي لا تتحقق في نفسه مثل هذه المعرفة، ويؤمن باستقلالية الأسباب والوسائل، او بتعبير آخر يجعل شريكاً لله في هذا الأمر؛ فإنه يتألم دائماً لرؤية نعيم الآخرين وتمتعهم. وقد يعمل بعضهم علي إيذائهم وسلب راحتهم. إلاّ أن يتخلص من هذا الخلق السيّء بأساليب أخر.
والأسمى من هذا كلّه هو أن الموحّد يعتبر جميع الموجودات ملكاً مطلقاً لله. وليس لأحد وجود مستقل غير الخالق جل و علا .. أن جميع نعم الدنيا وأصحابها، في نظر الموحّد، ملك خالص لله؛ وبديهي في مثل هذه الحال لا يوجد مكان للحسد والحرص نظائرهما .. كما أن الشخص الموحّد، لا يخاف أحداً غير الله، ولا يرجو أحداً غير الله، ومن هذه الناحية فهو لن يتصف بصفات من قبيل الجبن والحسد والحرص وأمثالها .. كذلك لا يثق بأحد ولا يطمئن إلى غير الله، ولا ينشد إلاّ الله، ولهذا فإنه لن يتخلق بغير أخلاق الله ..
وهكذا يتضح أن النهج الأخير أسمى وأنفس من جميع مناهج تهذيب الأخلاق. ولكن نظراً لأن الناس غير متفاعلين مع قاعدة المعرفة، لذا لم يكتفِ الإسلام في منهجه الأخلاقي بذلك، بل يستفيد من المنهج الثانى أيضاً، لأن غالبية الناس تقع تحت تأثير التعاليم المقرونة بالوعد والوعيد والبشرى والتهديد، أكثر من تأثرها بالتعاليم المبتنية على المعارف المتعالية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة