من التاريخ

الدَولَة الحَمْدَانيَّة (1)


الحمدانيون نسبهم ومذهبهم:
من هم الحمدانيون؟ وما هو مذهبهم؟
ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب في الجاهلية، لهم محل في الكثرة والعدد. ثم كان منهم في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطاب العدوي، وآل هارون المغمر، وآل حمدان بن حمدون.
وحمدان هذا هو جد الأمراء الحمدانيين، وكان على جانب من الثراء، ورب قبيلة، تنظر إليه بقية القبائل بالتجلة والاحترام، وكان أميراً على قلعة ماردين القريبة من الموصل من قبل العباسيين، ثم أعلن الاستقلال عنهم سنة 281 هجري، وكان ذلك في خلافة المعتضد، ودارت بين حمدان والخليفة العباسي معارك كانت الغلبة فيها على حمدان.
وأنجب حمدان سبعة أولاد منهم أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وأبو العطاف.
أما تشيع الحمدانيين فلا يختلف فيه اثنان، وقد ظهر ذلك جلياً في هجرة علماء الشيعة إليهم، كالشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وفي مدح الشعراء لهم، كالسري والصنوبري وكشاجم والناشي والزاهي وغيرهم، وفي سنة 354 هجري ضرب سيف الدولة دنانير جديدة كتب عليها «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء الحسن والحسين جبريل عليهم السلام».
ويأبى المستشرقون إلا أن يفسروا الأشياء على أهوائهم وبغير حقيقتها.
قال كبيرهم بركلمن في الجزء الثاني من «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص 89 طبعة 1954 ترجمة منير بعلبكي: «إن سيف الدولة أظهر الطاعة للفاطميين عندما نشروا سلطانهم على مصر، وبالتالي اتبع المذهب الشيعي» أي إن سيف الدولة تشيع إرضاء للفاطميين مع العلم بأن سيف الدولة توفي قبل دخول الفاطميين مصر.


الاثنا عشرية:
بقي أن نعرف إلى أي مذهب شيعي تنتسب أسرة الحمدانيين، إلى الزيدية أو الإسماعيلية أو الاثني عشرية؟
ويجيب عن هذا التساؤل مصطفى الشكعة في كتابه «فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين»، ويتلخص قوله بما يلي:
إن شعر أبي فراس يكشف لنا هذا اللغز الذي ظل غامضاً، حتى الآن، والذي لم يحاول أحد من المؤرخين القدامى، ولا من المحدثين أن يدرسه، وبذلك يكون الشعر قد أسدى إلى علم التاريخ مآثر جليلة، وكشف حقيقة كان الأولى بالتاريخ أن يحتصنها.


يقول أبو فراس من قصيدته الميمية:
يا للرجال أما لله منتصف*** من الطغاة أما للدين منتقم
بنو علي رعايا في ديارهم*** والأمر تملكه النسوان والخدم
محلئون فأقصى شربهم وشل*** عن الورود وأوفى ودهم لمم
فالأرض إلا على ملاكها سعة*** والمال إلا على أربابه ديم


وبعد هذه المقدمة المشحونة بالعطف على آل البيت ينتقل الأمير الشاعر إلى هجاء العباسيين، لأنهم نالوا الخلافة بالرسول، ثم لم يراعوا حرمة آل بيته، ويعقد مقارنة بين بني علي، وبني العباس، ويقول:
لا يطغين بني العباس ملكهم*** بنو علي مواليهم وإن زعموا
أتفخرون عليهم لا أبا لكم*** حتى كأن رسول الله جدكم
وما توازن فيما بينكم شرف*** ولا تساوت بكم في موطن قدم
ولا لكم مثلهم في المجد متصل*** ولا لجدكم معشار جدهم
قام النبي بها يوم الغدير لهم*** والله يشهد والأملاك والأمم
وصيرت بينهم شورى كأنهم*** لا يعرفون ولاة الحف أيهم
تاللّه ما جهل الأقوام موضعها*** لكنهم ستروا وجه الذي علموا
ثم ادعاها بنو العباس إرثهم*** ولا لهم قَدم فيها ولا قِدم
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن*** أبوهم العلم الهادي وأمهم
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم*** ولا يمين ولا قربى ولا رحم


وهكذا يرمي بني العباس بالغدر الذي يتضاءل أمامه ما لاقوه على أيدي بني أمية:
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت*** تلك الجرائم إلا دون نيلكم
كم غدرة لكم في الدين واضحة*** وكم دم لرسول اللّه عندكم
أأنتم آله فيما ترون وفي*** أظفاركم من بنيه الطاهرين دم
يا جاهداً في مساويهم يكتمها*** غدر الرشيد بيحيى كيف يكتتم


وبعد هذه الحملة الشعواء على العباسيين يعطينا أبو فراس مفتاحاً لمذهبه الشيعي، حيث يذكر موسى الكاظم وعلي الرضا، وهذان الإمامان ليسا من الأئمة عند الزيدية ولا عند الإسماعيلية ، وإنما هما من أئمة الاثني عشرية. قال:
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا*** مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم
خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا*** يوم السؤال وعمالين إن عملوا
لا يغضبون لغير اللّه إن غضبوا*** ولا يضيعون حكم اللّه إن حكموا
تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً*** ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم وكان لكم*** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم
ما في ديارهم للخمر معتصر*** ولا بيوتهم للسوء معتصم
والركن والبيت والأستار منزلهم*** وزمزم والصفا والحجر والحرم
صلى الإله عليهم أينما ذكروا*** لأنهم للورى كهف ومعتصم


وإذا كان الشاعر قد أعطانا في هذه القصيدة إشارة عابرة إلى أنه يعتنق مذهب الاثني عشرية، فإنه ينتقل بنا إلى التصريح والتأكيد في الأبيات التالية التي عدد فيها الأئمة الاثني عشر واحداً بعد واحد:
لست أرجو النجاة من كل ما*** أخشاه إلا بأحمد وعلي
وببنت الرسول فاطمة*** الطهر وسبطيه والإمام علي
والتقي النقي باقر علم*** اللّه فينا محمد بن علي
وابنه جعفر وموسى ومولا*** نا علي أكرم به من علي
وأبي جعفر سمي رسول اللّه*** ثم ابنه الزكي علي
وابنه العسكري والمظهر*** حقي محمد بن علي
فبهم أرتجي بلوغ الأماني*** يوم عرضي على مليك علي


في البيت الأول ذكر علياً، وفي البيت الثاني ذكر الحسن والحسين وعلي بن الحسين، وفي البيت الثالث ذكر محمداً الباقر، وفي البيت الرابع ذكر جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، وفي البيت الخامس ذكر أبا جعفر، وهو محمد الجواد وعلي الهادي، وفي البيت السادس ذكر الإمام العسكري والمهدي المنتظر، له أبيات أخرى يتوسل بها ويطلب الشفاعة بمحمد وفاطمة والأئمة الاثني عشر:
شافعي أحمد النبي ومولا*** ي علي والبنت والسبطان
وعلي وباقر العلم والصا*** دق ثم الأمين ذو التبيان
وعلي ومحمد بن علي*** وعلي والعسكري الداني
والإمام المهدي في يوم لا*** ينفع إلا غفران ذي الغفران

وإذا عرفنا أن أبا فراس ربي في حجر سيف الدولة منذ كان طفلاً صغيراً، ونشأ على يديه، وتعلم تحت رعايته، وأنه قد اختار له معلماً ومربياً اثني عشريّاً، إذا عرفنا ذلك عرفنا أن سيف الدولة بخاصة، والحمدانيين بعامة كانوا يعتنقون المذهب الاثني عشري.


ناصر الدولة:
كان لحمدان وأولاده شأن كبير في الدولة العباسية، ثاروا على الخلافة أكثر من مرة، وسجنوا مرات، وتولوا كثيراً من المناصب الكبرى في داخل بغداد وخارجها، فحمدان نفسه كان أميراً في قلعة ماردين، وابنه الحسين تولى ديار ربيعة، ثم قم وقاشان، واحتل مصر بعد انتصاره على الطوليين، وأخوه العلاء تولى الموصل، ثم تولاها بعده أخوه أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وبقي والياً عليها إلى أن قتل سنة 317، وترك عليها ابنه ناصر الدولة.
وكانت الدولة العباسية في هذا الوقت تعاني النزع والانحلال بظهور سلطان المتغلبين في أطراف المملكة والثغور، فقامت في فارس دولة بني بويه، وفي مصر وسورية دولة الأخشيديين، وفي إفريقيا دولة الفاطميين، وفي إسبانيا دولة الأمويين، واستقل بنو سامان في خراسان، والقرامطة بالبحرين، وأعلن البريدي حكمه على البصرة وواسط، وزحف إلى بغداد، يحدث هذا كله، والحمدانيون ينتظرون الفرصة، ويعدون أنفسهم لما هو أهم من الولاية والإمارة، مع أن الحكم في الموصل لهم وحدهم، ولا شيء للخليفة سوى الاسم.
ولم تمض الأيام، حتى يهرب الخليفة المتقي من بغداد خوفاً من البريديين، ويلتجئ إلى ناصر الدولة في الموصل، فألف ناصر الدولة جيشاً من العاصمة، حتى نزح عنها البريدي إلى واسط، فتبعه سيف الدولة، وانتزعها منه، ولما استقرت الحال بالخليفة جعل ناصر الدولة أمير الأمراء، وأخذ ناصر في مزاولة سلطته الجديدة في بغداد، فبدأ بالعمارة، وحال دون عبث التجار والصيارفة وضرب دنانير جديدة، وهدد بإنزال العقاب على كل من لم يقلع عن الربا والغش، إلا أن إمرة الأمراء لم تطل مدتها في الحمدانيين لاضطراب الأمور في بغداد، فترك ناصر الدولة هذه الإمرة، وعاد إلى الموصل ليبسط سلطانه عليها، وعلى الديار المجاورة، وعاد سيف الدولة، ليفتح حلب، ويوطد بها ملكه.
وظل ناصر الدولة يحكم الموصل بيد من حديد في حين يوطد أخوه سيف الدولة ملكه في حلب، ويغزو بلاد الروم إلى سنة 356، وهي السنة التي مات فيها سيف الدولة، فقبض أبو تغلب على أبيه الأمير، واعتقله ودارت حروب وخلافات بين أبي تغلب وأخيه حمدان، وكان خلاف أبناء ناصر الدولة، وقيام بعضهم ضد بعض مدعاة لأن يتقدم عضد الدولة البويهي إلى الموصل، ويطرد أبا تغلب منها، ويستولي عليها بعد أن دامت في أيدي الحمدانيين من سنة 293 إلى سنة 367 التي استولى فيها عضد الدولة عليها، وكان الحمدانيون يجلون بعض الوقت عن الموصل خلال هذه المدة ثم يعودون إليها.
شبكة المعارف الإسلامية

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة