مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

وجوب التوبة


الشيخ محمد مهدي النراقي ..
التوبة عن الذنوب بأسرها واجبة ، بالأجماع ، والنقل ، والعقل : أما الإجماع - فلا ريب في انعقاده. وأما النقل – فكقوله – تعالى - : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور : 31] ، وقوله – تعالى - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم : 8] .
ومعنى النصوح : الخالص للّه خاليًا عن شوائب الأغراض ، من مال أو جاه أو خوف من سلطان أو عدم أسباب ، والأمر للوجوب، فتكون التوبة واجبة بمقتضى الآيتين.
وأما العقل - فهو أن من علم معنى الوجوب ومعنى التوبة فلا يشك في ثبوته لها.
بيان ذلك : أن معنى الواجب وحقيقته هو ما يتوقف عليه الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك السرمد ، ولولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشي‏ء وتركه لم يكن معنى لوجوبه فالواجب ما هو وسيلة وذريعة إلى سعادة الأبد.
ولا ريب في أنه لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء اللّه والأنس به ، فكل من كان محجوبًا عن اللقاء والوصال محرومًا عن مشاهدة الجلال والجمال ، فهو شقي لا محالة ، محترق بنار الفراق ونار جهنم ، ثم لا مبعد عن لقاء اللّه إلا اتباع الشهوات النفسية والغضب والأنس بهذا العالم الفاني ، والإكباب على حب ما لا بد من مفارقته قطعًا ، ويعبر عن ذلك بالذنوب.
ولا مقرب من لقاء اللّه إلا قطع علاقة القلب من زخرف هذا العالم ، والإقبال بالكلية على اللّه طلبا للأنس به بدوام الذكر، والمحبة له بدوام الفكر في عظمته وجلاله وجماله على قدر طاقته ، ولا ريب في أن الانصراف عن طريق البعد الذي هو الشقاوة واجب للوصول إلى القرب الذي هو السعادة ، ولا يتم ذلك إلا بالتوبة التي عبارة عن العلم والندم والعزم ، ولا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، فالتوبة واجبة قطعًا.


تحقيق في وجوب التوبة
كيف لا تكون التوبة عن المعاصي واجبة ، مع أن العلم بضرورة المعاصي وكونها مهلكة من أجزاء الإيمان ووجوب الإيمان ومما لا ريب فيه ، والعالم بهذا العلم إذا لم يعمل به فكما لا يعلمه أو ينكره فلا يكون له هذا الجزء من الإيمان، لأن كل علم يراد ليكون باعثًا على العمل فلا يقع التفصي عن عهدته ما لم يصر باعثًا، فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثًا على تركها ، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان ، وهو المراد بقول النبي (صلّى اللّه عليه وآله) : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ، وما أراد به نفي الإيمان باللّه ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله ، فإن ذلك لا ينافي الزنا والمعاصي ، وإنما أراد به نفي الإيمان باللّه لكون الزنا مبعدًا عن اللّه وموجبًا لسخطه ، وليس الإيمان بابًا واحدًا ، بل هو- كما ورد- نيف وسبعون بابًا ، أعلاها الشهادتان وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، ومثاله قول القائل : ليس الإنسان موجودًا واحدًا ، بل هو نيف وسبعون موجودًا ، أعلاها الروح والقلب وأدناها إماطة الأذى عن البشرة ، بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار نقي البشرة عن الخبث ، حتى يتميز عن البهائم المرسلة المتلوثة بأرواثها ، المستكرهة الصور بطول مخالبها وأظفارها ، فالإيمان كالإنسان ، وفقد الشهادتين كفقد الروح الذي يوجب البطلان بالكلية ، والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة ويترك سائر أجزائه من الأعمال ، فهو كإنسان مقطوع الأطراف مقفوء العينين ، فاقد لجميع أعضائه الظاهرة والباطنة ، إلا أصل الروح.
وكما أن من هذا حاله قريب من الموت ومزايلة الروح الضعيفة المنفردة التي تخلفت عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها ، فكذلك من‏ ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال  قريب من أن تنقلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده ، فكل إيمان لم يثبت في النفس أصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه ، لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة  فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي فروع ليساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل ، فلا بقاء للأصل دون الفرع ، ولا وجود للفرع دون الأصل ، ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شي‏ء واحد ، وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعًا يستدعى وجود الأصل ، وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع ، ولكن بقاءه يستدعي وجود الفرع ، فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل ، فمساواة العاصي والمطيع في اسم المؤمن كمساواة شجرة القرع وشجرة الصنوبر في اسم الشجرة ، وإنما يظهر الفرق إذا عصفت الرياح القوية ، فعند ذلك تنقطع أصول شجرة القرع وتتناثر أوراقها ، وتبقى شجرة الصنوبر ثابتة على أصلها وفرعها.

ومثل العاصي الذي لا يخاف الخلود في النار لأجل معصيته اتكالا على إيمانه بالتوحيد والرسالة ، كمثل الصحيح الذي يأكل الأغذية المضرة والسمومات ولا يخاف الموت اتكالا على صحته ، فكما يؤدي صحة هذا الصحيح بتناوله السمومات والأغذية إلى المرض والمرض إلى الموت ، فكذلك تؤدى ذنوب العاصي إلى سوء الخاتمة وسوء الخاتمة إلى الخلود في النار  فالمعاصي للإيمان كالسمومات والمأكولات المضرة للأبدان ، فكما أن مضرة السمومات لا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة ، فكذلك آثار المعاصي لا تزال‏ تتراكم في النفس حتى يفسد مزاجها فيسلب عنها أصل الإيمان ، فالخائف من الموت في هذه النشأة القصيرة إذا وجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات ، فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ترك الذنوب ، ومن تناول السم وندم إذا وجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإخراجه عن المعدة ، فمتناول سموم الإيمان وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام مهلة التدارك.
فالبدار البدار معاشر إخواني إلى التوبة! قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح إيمانكم عملا لا ينفع بعده الاحتماء ، ويخرج الأمر فيه عن أيدي اطباء القلوب ، فلا ينفع حينئذ وعظ الواعظين ونصح الناصحين ، وتحق عليكم كلمة العذاب، وتدخلون تحت عموم قوله - تعالى- : {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس : 9] ، وقوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] وغير ذلك من الآيات.
ثم مقتضى الأدلة المذكورة : كون التوبة واجبة على الفور، فيجب على كل مسلم أن يتوب عن ذنوبه فورًا ، ولا يجوز له التأخير ، قال لقمان لابنه : «يا بني! لا تؤخر التوبة ، فإن الموت يأتي بغتة».
ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين : - أحدهما- أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير دينًا وطبعًا فلا يقبل المحو.-
والثاني - أن يعاجله‏ المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو، ولذلك ورد : أن أكثر صياح أهل النار من التسويف ، فما هلك من هلك إلا بالتسويف.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة