لقاءات

جاسم عساكر: القصيدة الكلاسيكية لا تزال متسيدة


نظمية الدرويش ..
عجلة التحديث تقول إن الأسلوب القديم بطريقته الملتزمة وشكله القديم، لم يعد قادرًا على استيعاب مفاهيم العصر الجديد، وهو ليس شأنًا خاصًّا بالشعر فقط، إنما نحن أمام أسلوب حياة متحوّل على كل الأصعدة. وحتمية التغيير التي صبغت هذا العصر، قدرت أن تغير في شعر لازم العرب منذ بدء حياتهم الاجتماعية، واستمر عبر العصور متسيدًا إلى أن "أتى أجله"،  فهل ما نراه اليوم من تمسك بالقصيدة الكلاسيكية هو مراسم الحداد؟ أم محاولات إعادة إحياء؟ فيما يلي؛ يعطينا الشاعر جاسم عساكر ابن منطقة الأحساء الجواب الشافي حول الشعر الكلاسيكي ومصيره.
التحديث ضرورة
 فالشعر، يقول عساكر المتلذذ بأشعار الجاهلية والساعي للتجديد فيها، أنه هو الأجدى والأجدر لمواكبة العصر في أن ينوّع في النسق والأسلوب، "فلم تتفجر رؤى "نازك الملائكة" وأفكار "بدر شاكر السياب"، حول القصيدة الحرة فقط عن استهلاك تنظيري لفظي، ولا عن ترف لغوي كلامي حول ضرورة تجديد أسلوب القصيدة، بل كان ذلك ناشئاً عن حاجة حقيقية في الذائقة العربية، لأنهما أدركا ضرورة إشباع الذائقة بالجديد فوُلدت قصيدة التفعيلة". يكمل الشاعر حديثه حول الشعر الحديث، ومنه قصيدة التفعيلة التي أصبحت أسلوبًا جديداً يستوعب مفاهيم الشعر الحديثة، كما وبرزت قصيدة النثر كمحارب قوي على الساحة وزاحمت الكثير من الفنون واتسعت لأغراض الحياة عامة.


على صعيد آخر، يشير عساكر إلى أنه هناك من اكتفى بتغيير الماكياج الخارجي للقصيدة العامودية ذاتها، وظل قائمًا عليها كنمط، بينما انتهج أسلوباً آخر في المضامين والمفردات المعجمية، محاولًا الاستفادة من متغيرات الحياة، فاستخدم المفردات الحديثة دون الإخلال بالبنية، فأصبحت القصيدة الكلاسيكية تتجدد أسلوبيًّا، على الرغم أنها لم تزل بذات العامود الفقري والقوام الذي بدّل ملابسه فقط مع قليل من الديكور.
التجديد والمعاصرة نجدهما اليوم في تجربة جاسم عساكر الشعرية، فبعد ثلاثة دواوين حاول فيها أن يتجدد، كما ويجدد أسلوب كتابته عبر التواصل مع المشهد المعاصر وتماسّه المباشر مع أساليب الشعر الحديثة، حيث بدا ذلك واضحاً في ديوانه الأخير عام ٢٠١٤  (أطواق الشوك)، بما طغى فيه من قصائد التفعيلة، ومحاولة اللجوء إلى معجم لفظي حديث له علاقة باليومي، إذا ما قيس بأخيه الأكبر (شرفة ورد) الصادر عام ٢٠٠٩ الذي حفل في جزئه الأكبر بالكلاسيكية.


الكلاسيكي العصري
 محاولات تحديث الشعر في نظر عساكر بدأت منذ أن أطلق (أبو نواس) بيته الشهير :
قل لمن يبكي على رسم درس .. واقفًا ما ضر لو كان جلس
يقول: "حيث السخرية الموجعة من نمطية الشعر السائد المتسيد، والدعوة الضمنية إلى التمرد على الطريقة القائمة في الوقوف على الأطلال، وعدم اتخاذ ذلك شرعة ومنهاجًا في كتابة القصيدة، بل والتحريض على أن يتمرد الشاعر على أساليب ماضيه وتقاليده الشعرية، ليأتي بالجديد على حد تعبيره". ويذهب بعيدًا في القول: "وكأنما الحداثة بدأت من هناك حيث (أبو نواس) و (أبو تمام) و (ابن الرومي) و (الحلاج) وسواهم من الشعراء المحدثين، الذين كتبوا القصيدة بأسلوب مغاير عمن سبقهم، وإن كانوا أبقوا على الشكل الخارجي". وبالرغم من تعدد أوجه التجديد في الشعر إن كان في شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، فإن كل ذلك لا يعني القطيعة المباشرة والتامة عن الموروث برأي عساكر وإنما إدخال أدوات تحسينية أو تطويرية عليه.


 يستدل جاسم على صحة فكرته، في أن ما يميز القصية العصرية اليوم ليس أبدًا التفلت من القيود الشكلية، بل في أن الأدوات المدخلة على تحسين القصيدة النوعية، هي تميزها بالقدرة على احتواء روح العصر بشكل سلس وجذاب سواء في الغنائية أو البناء المعماري لها، أو في قدرتها على تقديم أفكارها بطريقة درامية أو حوارية أو قصصية، والمحافظة على إيقاع معين ليس بالضرورة أبدًا عروضًا شعرية، وكذلك قدرتها على ابتكار الصورة الحديثة التي تتماهى مع ثقافة المشهد. كل هذا يعتقده عساكر بأنه هو بمثابة أدوات ومقادير لصناعة قصيدة حديثة، إن كانت تلك المقادير والأدوات تتمتع بالجدة والحداثة.


من شاعر كلاسيكي إلى آخر
هناك من الشعراء المحدثين من يقول أن القصيدة الكلاسيكية هي من تسيء إلى أصحابها كونها خيارهم الوحيد، فيما يجب على الشعراء أن يتخطوا هذا النمط الكلاسيكي وسجونه الضيقة المتمثلة في الوزن والقافية إلى ما هو أرحب في فضاء القصيدة الحرة .

وفي المقابل لا يخطئ الشاعر جاسم عساكر  هذه النظرية، وإنما يرى أن هناك من يجني على القصيدة الكلاسيكية من الشعراء بعدم استيعابهم ما تتطلبه القصيدة الكلاسيكية اليوم، من بريق غير البريق الذي بهتت كنوزه  على حد تعبيره، كونها تشع منذ قرون مضت، وأنهم بحاجة ماسة إلى خلق تعريف للشعر في أنفسهم، يجعلهم يتماهون مع الشعر بصورة حياتية أعمق، غير التعريف المدرسي (هو الكلام الموزون المقفى) وأن يدركوا هذا المعنى في صناعة القصيدة، والجنوح بها نحو تألق الفكرة، وإشراقة المعنى، والاجتهاد في المضامين والصياغات الحديثة، والصور والتشابيه والبناء المعماري العصري، كي تتماشى مع ما وصل إليه الشعر اليوم.
يكمل الشاعر عتابه على شعراء اليوم ويقول: "والمؤسف أكثر؛ أنه يوجد اليوم من الشعراء الحاليين من يسيء إلى القصيدة الحديثة فضلاً عن الكلاسيكية، وذلك كونها أصبحت موجة متاحة للركوب أمام من يحسن التجديف والإبحار ومن لا يحسن، وتحت ذرائع عدة كالحرية واتساع المجال للجميع وما إلى ذلك من ذرائع، جعلت بعض الشعراء يستسهلون الكتابة ويبسطون طريقة امتلاك أدواتها الإبداعية".


 الكلاسيكي لا يزال رائجًا
 يؤكد ابن الأحساء أن الشعر الكلاسيكي لا يزال يلقى رواجًا واسعًا في عالمنا العربي فيقول: "المتتبع للمحافل المنبرية في أوطاننا العربية يجد أن القصيدة الكلاسيكية هي التي تتسيد أصلاً، والقصيدة الحديثة هي التي تحاول منافستها في هذا المضمار، ومع ذلك كثيراً ما تخسر الرهان، حيث أن الجمهور ما زال مأخوذًا بالغنائية والجرس الموسيقي الأخاذ الذي توفره القصيدة الكلاسيكية، وحيث أن القائمين على المحافل يدركون هذا المعنى جماهيرياً". وذلك عكس القصيدة الحديثة التي تقرأ أكثر مما تسمع بحسب عساكر، عدا في محافل النخبة وأمسيات ذات حدود نطاقية ضيقة، لما تتطلبه من ذهنية ثقافية قادرة على التحليق وراء الجمل الشعرية وتفكيك رموزها ومعانيها، ولا ينسى الشاعر أن يستثني بعض الشعراء الذين يقدمون القصيدة الحديثة بشكل مبسط مع طاقة كثيفة من الشاعرية.


يتكلم الشاعر الشاب من منطلق بيئته الخليجية، أنه يكفي وجود كبرى المسابقات، والجوائز الخليجية التي تهتم بهذا الشأن، وترعى المواهب، وتحفز الشعراء على الكتابة واستقطاب جمهور الشعر من أنحاء الوطن العربي، لكي نتيقن من بقاء القصيدة الكلاسيكية، وبأسلوب عصري وبقوة في الساحة الأدبية العربية. يتابع عساكر في أن مجمل هذه المسابقات تهتم بالعامودي كدرجة أولى، والتفعيلي الحر بدأ يأخذ موضعه جنباً إلى جنب مع العامودي، فيما بقيت القصيدة النثرية تراوح بنسبة أقل بكثير، على رغم حضورها اللافت إلكترونيًّا، وأما منبريًّا فإن الشعر العامودي الكلاسيكي هو الأكثر حضوراً.
يختم شاعرنا صاحب النشاط الزاخر بالحضور في مجمل الأنشطة الادبية في المنطقة، والمتابعة الجادة لمسير الشعر الكلاسيكي وتطوره الملحوظ، بقول يلخص الحالة التي يعايشها الشعر العربي عامة "المنظرين للقصيدة الحديثة يرون أن الكلاسيكية لم تعد قادرة على استيعاب التجربة الشعرية للشاعر المعاصر بما يضج به من عناصر طرأت على الحياة، وأن القصيدة الحديثة انفتحت على فضاء الحياة العالمية، فبساطة الأداة التي تملكها الكلاسيكية جعلت منها أقل قدرة على المواكبة (كما يرون) بينما الأدوات المتطورة لدى الحديث جعلت منها أكثر قدرة على الطيران والتحليق في عوالم الإنسان وسبر أغواره".
أما الحقيقة الثابتة تقول: إن الشعر الكلاسيكي وبأرقى الأساليب لن يسمح له أن يموت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة