قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

الخشوع وآثاره في القرآن


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..
هذا اللفظ يلازم الخوف والخشية إلى حدّ ما. فالخشوع يعني خضوع القلب، ويشير إلى حالة الليونة في القلب مقابل (القسوة) التي تطلق على صلابة القلب وعدم تأثّره.
قال تعالى في القرآن الكريم:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
هذه الآية ترغّب المؤمنين بأن يتحلَّوا بالخشوع والخضوع في القلب ولا تقسو قلوبهم ولا يكونوا غير متعاطفين، وليكونوا متواضعين خاضعين إزاء كلمات الله وآياته والكتب السماوية والحق والحقيقة، ولينظّموا شؤون حياتهم ويعطوا الصورة الصحيحة لأعمالهم وسلوكهم بوحي منها، وتذمّ الذين وصفتهم بأنّهم قساة القلب الذين نزلت عليهم الكتب السماوية والتوراة ولكن لم تؤثّر على حياتهم، وبدلاً من الخروج من حالة الغفلة والميل إلى الحق تمادت قلوبهم في قسوتها ومارسوا الفسق والفجور، وتطلب الآية من المؤمنين السعي لجعل قلوبهم خاشعة تجاه الحق واسم الله وأن لا يبتلوا بمصير بني إسرائيل.
إنّ تعامل الآية المذكورة مع خشوع القلب وقسوته يبيّن هذه الحقيقة وهي أنّ تحصيل الخشوع أمر اختياري إلى حدّ ما، أي الإنسان بتوفير المقدّمات وممارسة أعمال خاصّة قادر على إيجاد هذه الحالة في القلب، كما أنّ القسوة، وهي النقطة المقابلة للخشوع، يمكن إيجادها في القلب عن طريق مقدماتها الاختيارية ولذا توجه الذمّ إلى قاسي القلب.
وعليه فإنّ جذور الخشوع موجودة في الفطرة الإنسانية كسائر المشاعر والعواطف، وهي قابلة للقوة والضعف فعلينا تقوية جذورها الفطريّة حينما تضعف.
يعتبر القرآن الكريم (الخشوع) من الصفات البارزة للإنسان الصالح، ويشير إلى هذه الصفة في مقام الثناء على الأشخاص والجماعات باعتبارها نقطة امتياز، كما قال في مدح الأنبياء (عليهم السلام): ﴿إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾.
في آية أخرى يذكر (الخاشعين) و(الخاشعات) -بعد اعتبارهم فئة لها هذه الصفة الممتازة- ضمن فئات أخرى ذات صفات بارزة أخرى، وتقول أخيراً كأجر على هذه الصفات الصالحة: ﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.
وفي مورد المصلّين يستند إلى اتّصافهم بالخشوع كرمز للاستقامة والتحمل حيث يقول تعالى:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾.
ومن الجدير بالالتفات أنّ هذه الآية تشير بدقة إلى موضوع البحث وتسلّط الأضواء على العلاقة بين حالة الخشوع وبين معرفة المبدأ والمعاد وبعض الأفعال الإلهيّة، ببيان أنّ حالة الخشوع من صفات الذين يظنون أنّهم يلاقون الله ويرجعون اليه.
وفي آية أخرى يبيّن تعالى الخشوع في الصلاة كعلامة بارزة للإيمان الذي يكون هو المنشأ لفلاح الإنسان، حيث يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾.
وفي مورد آخر أكثر تفصيلًا يتطرق إلى علامات النقطة المقابلة لصفة الخشوع ويقول:
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء﴾(7).
لقد شرح الله سبحانه صدور بعض الناس وأعطاهم قلوباً تذعن للإسلام وتكون تحت شعاع من نور ربهم، تقشعرّ جلودهم من سماع آيات الله، وتلين قلوبهم وجلودهم لذكر الله، وهذه كلها آثار وعلامات لخصائل تحكي عن الخشوع في القلب، وفي المقابل أشار سبحانه إلى ﴿لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ وهم الذين لا يملكون شيئًا من هذه الخصال ولا يتأثّرون أبداً بالحق ممّا يدلّ على ضلالهم المبين.
أجل، إنّها حالة وكيفية خاصّة في الجهاز العصبي للإنسان بأن يقشعرّ جلده حينما يجد نفسه فجأة بين يدي موجود عظيم، ثمّ يلين قلبه وبالتبع جلده، ويشعر في نفسه وهو أمام الله لينا وخشوعًا وتواضعًا، وهذه علامة اهتدائه. كما أنّ آيات أخرى تذكر علامات أخرى كالسجود على الأرض والبكاء بتأثير من الاستماع إلى الآيات الإلهيّة، حيث تقول:
﴿إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا﴾.
أو تقول: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾.

كما قالت في آيتين سابقتين:

﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾.
ومرّة أخرى يلزم الانتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أنّ هذه الآية تشير إلى العلاقة بين الخشوع بعلاماته وآثاره وبين العلم والمعرفة، وأنّ هذه الحالة كالحالات المماثلة لها تنشأ من المعرفة، حيث إنّ الذين أوتوا العلم هم ذَوو المعرفة الذين يشعرون بالخشوع في قلوبهم ويسجدون لله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة