علمٌ وفكر

الدين والإلحاد (3)


حيدر حبّ الله ..
8ـ بين مركزيّة الله ومحوريّة الإنسان
من مجمل ما تقدّم، نجد أنّ المحور والمركز في كلّ الثقافة الدينيّة هو الله، فالله هو المحور، وهو الأساس والأصل، ونحن ندور حول كعبته، وكلّ شيء بأمره، ويجب الاستسلام والتسليم له؛ لأنّ هذا التسليم ليس جهلاً، بل هو الوعي بجهلنا ونقصنا، إنّه العلم بحالنا. هو نورٌ، وليس ظلمة.
بينما يرى الإلحاد أنّ المركز هو الإنسان (إمّا الفرد، كما في الثقافة الليبراليّة؛ أو الجماعة، كما في الثقافة المادّيّة الماركسيّة). فالإنسان هو الأصل، والقوانين والأفكار والبرامج والمشاريع يجب أن تدور حول كعبته، وتكون في خدمته.
هذا التمايز الجوهريّ في قضيّة مركزيّة (الله ـ الإنسان) أهمّ تغايرٍ واختلاف شهده صراع الدين وخصومه في العصر الحديث. وحتّى الكثير من المتديّنين اليوم يفكِّرون بعقليّة مركزيّة الإنسان، وليس مركزيّة الله.
ونظراً لحساسيّة هذا الأمر، أشير إلى أنّ المذهب الكلاميّ الأشعريّ عند المسلمين بلغ به الحال أنْ قال بأنّ القوانين والتشريعات لا يجب أن تكون فيها مصالح واقعيّة للإنسان، بل حتّى لو كان فيها ما نراه نحن مفاسد عليه فهي خيرٌ؛ لأنّ قيمة القانون ليست في مضمونه، بل في الالتزام به تجاه الله سبحانه.
لستُ أريد تأييد هذه الفكرة التي وقع حولها جَدَلٌ كبير في التراث الإسلاميّ في سياق ما عُرف بمسألة التحسين والتقبيح العقليّين والذاتيّين، بقدر ما أريد أنْ أشير إلى حجم نزوع العقل الدينيّ نحو مركزيّة الله، فما يقنِّنه الله فهو خيرٌ، لا أنّه يقنِّن الخير.
وفكرة مركزيّة الإنسان التي باتت تسري لكلّ مرافق التفكير اليوم، حتّى في الوسط الدينيّ، حصل فيها انزياحٌ مفاهيمي هائل. فكلُّ شيء في خدمة الإنسان. حَسَناً، لا بأس، لكنْ ما معنى خدمة الإنسان ومصلحته؟
إنّ خدمة الإنسان تعني منفعته، لكنّ ما نراه يسير اليوم في العالَم هو أنّ خدمة الإنسان تعني راحته وإحساسه بالسعادة، فصارت هناك موضوعيّة وخصوصيّة للراحة والإحساس بالسعادة. ومن المعروف أنّ هذه المفاهيم غير مفهوم المصلحة، فقد تكون المصلحة في الوَجَع، وقد تكون في عدمه. فعندما تسير فكرة مركزيّة الإنسان من عنوان الخير والمنفعة والمصلحة إلى عنوان الراحة والأمن والاستقرار والإحساس باللذّة والسعادة والجمال فهو انزياحٌ كبير. فنقطة الخلاف الدينيّ اليوم ليست في منفعة الإنسان؛ لأنّ الدين يقول بأنّ منفعة الإنسان في الدين بحسب النظرة الدينيّة، التي تأخذ المآلات والآخرة بعين الاعتبار، سواء أخطأ الدين أم أصاب، ومنفعة الإنسان بمحوريّة الله نفسه، لكنّ القضيّة هي أنّ منفعة الإنسان صارت في راحته وأمنه واستقراره، وصارت قيمة العلوم أن تنتج ذلك، وهنا نقطة خلاف دينيّ أيضاً، لا بمعنى أنّ الدّين ضدّ ذلك، بل هو ضدّ جعل هذه القِيَم مبادئ عليا بوصفها قِيَماً أخلاقيّة.


خاتمة
رغم اختلاف الدين والإلحاد فإنّهما يتّفقان في أمور:
فبقدر ما يرى الإلحاد رؤيته واضحةً للأشياء، مؤيّدة بالعلم الحديث، يرى الدين وأنصاره أنّ رؤيتهم واضحةٌ للغاية، بل تكاد تكون من وجهة نظرهم تبلغ حدّ البداهة، إلى حدّ أنّ حجم يقينهم برؤيتهم يزيد بأضعاف عن حجم يقين الملحدين، وحجم يقين بعض الملحدين يتخطّى كثيراً حجم يقين جمهورٍ كبير من المؤمنين. فكلّ واحدٍ من الفريقين يرى نظريّته واضحةً جليّة. فبقدر ما يرى الملحد وضوح غياب الله عن الحياة؛ إذ لا نراه، ولا نحسّ به، يرى المتديِّن وضوح حضوره، ويمارس شعوريّاً علاقةً غريبة معه، تصل حدوداً تفوق حدّ التعقيل والفهم أحياناً.
كلّ فريقٍ من الاثنين يقول بأنّ الدين أو الإلحاد له خيراتٌ ومنافع على الإنسانيّة، ويسرد كلّ واحد منهما الكتب والمجلَّدات التي تعكس التأثيرات الإيجابيّة له على الحياة، وما قدّمه من نتائج وحضارة ومدنيّة هنا وهناك، بما لا مجال للحديث عنه الآن. في مقابل محاولة كلّ فريق إثبات فشل الآخر، والتركيز على نقاط ضعفه، دون النظر إلى نقاط قوّته. ففيما يفتخر الإلحاد بأنّه أنتج العلم الحديث ـ إذا صحّ أنّ العلم الحديث هو نتيج الإلحاد ـ نجد الأديان تفتخر بأنّها أيضاً قدَّمت تطوّراتٍ رهيبةً في العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، في بعض العصور التي كانت فيها صاحبة القوّة والنفوذ، كما هي الحال في التاريخ الإسلاميّ وتطوّر العلوم عند المسلمين.
من خلال النماذج التي مرّت، وهي مجرّد نماذج بسيطة، نجد أنفسنا أمام إنسانَيْن، كلّ واحدٍ يفكِّر بطريقة خاصّة، ويقوِّم الأشياء من منظارٍ خاصّ، وما أريد أن أقوله بعد هذه المقارنات البسيطة هو النتيجة التالية:

أـ الدين ليس انعداماً للرؤية، بل هو رؤيةٌ، سواء قبلتها أم رفضتها. هو رؤيةٌ متكاملة من نوع آخر. لهذا فما بتنا نجده عند بعض المثقَّفين من تصوير الدين بكلّ مدارسه وتيّاراته على أنّه ليس سوى فوضى فكريّة.. غيرُ صحيح. الدين رؤية للوجود والإنسان. هو وجهة نظر تستحقّ الوقوف عندها، ولا يجوز التحرُّر النفسيّ منها بتصويرها خطأً أنّها مجرّد خزعبلات المنجِّمين، أو ترّهات قرّاء الفناجين، فقد نتج في العصور الدينيّة ولادة فلسفات ضخمة عرفها التاريخ، وما تزال تحتضن في نظريّاتها الأصول الدينيّة الكبرى.

ب ـ لا يُقرأ الدين من زاوية الحقّ والباطل فقط، بل يُقرأ أيضاً من الزوايا النفسيّة والاجتماعيّة. ولا يُقرأ الدين من زاوية عناصر ضعفه فحَسْب، بل يُقرأ من زواياه كاملة. فما بتنا نجده اليوم في تيّارٍ كبير في الأمّة من التعاطي مع الدين عبر نهج جمع سلبيّاته هو خطأٌ كبير علميّاً، وكذلك التعاطي معه بروح السخرية، مستغلّين وجود بعض الهَفَوات والخرافات والخزعبلات القائمة في الأوساط الدينيّة. إنّنا نجد اليوم مَنْ يجمع كلّ تناقضات الدين التاريخيّة، وكلّ مشاكله ونقاط ضعفه؛ لتحشيدها في سياق صراعٍ علمانيّ إسلاميّ، ليس سوى معركةٍ سياسيّة بامتياز، يُراد القول بأنّها ذات صبغةٍ فكريّة. هي معركةٌ سياسيّة للإطاحة بتيّارات سياسيّة دينيّة لأجل تيّارات أخرى، والدين هو الضحيّة من خلال إبدائه للناس بوجهٍ قبيح، مستخدمين كلّ الوسائل الإعلاميّة المتنوِّعة والمذهلة. ومع الأسف لم يدرك كثيرٌ من المتديِّنين حقيقة الوضع حتّى الآن، فأَوْغَلوا في تكريس الصورة السلبيّة عن الدين، وأوقفوا كلّ عناصر الاجتهاد والتجديد في العقيدة والشريعة، ظنّاً منهم أنّ هذه العناصر هي التي تسقطنا في فخّ العلمانيّة والإلحاد، دون أن يتنبَّهوا إلى أنّ إلغاء مناهج الاجتهاد والتجديد هي الأخرى قد توصلنا ـ من خلال الصراع السياسيّ القائم ـ إلى كسب التيّارات العلمانيّة ذات الطابع العدوانيّ على الدين للمعركة بامتياز!! أليس في التيّارات الدينيّة المتوحِّشة اليوم خير سند لنموّ التيّارات العلمانيّة؟! أليس في التديُّن العدوانيّ والتديُّن الإقصائيّ والتديُّن الانغلاقيّ الذي يظنّ أنّه يحمي الدين بعدوانيّته وإقصائه وانغلاقه.. أليس فيه مادّةً دسمة لخلق وعي شبابيّ عارم يقوم برفع شعار: (عدم الإسلام هو الحلّ)، في مقابل شعار: (الإسلام هو الحلّ)؛ لأنه بات يرى أنّ دخول الدين على خطّ الحياة هو سبب مشاكلنا اليوم؟!!

إنّني أدعو الباحثين والمفكِّرين والعلماء والمثقَّفين والناقدين إلى التحرُّر من اللغة الإعلاميّة، ومن التنافس السياسيّ، ومن النظرة الأحاديّة، عندما يدرسون الدين؛ فقد نرتكب خطأً تاريخياً عندما نصفّي الدين نفسه في سياق تصفيتنا للأحزاب السياسيّة الدينيّة، فتخسر الأمّة عنصراً رفيعاً من عناصر التسامي الأخلاقيّ والروحيّ والاجتماعيّ والحضاريّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة