علمٌ وفكر

عقل الإنسان


مما يدعو إلى أشد العجب انه في أنواع الحياة الحيوانية التي لا تحصى – سواء أبقيت الحيوانات أم انقرضت – لسنا نجد عندها أي مظهر للعقل، ولكنا نجد الغرائز وحدها حتى نصل إلى الانسان، فنراه قد استأثر بالعقل وحده.
إن أي حيوان لم يسجل لنفسه قدرة على تربيع حجر، أو العد لغاية عشرة، أو فهم معنى عشرة!
في خليج الخلق، قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال الغرائز أو الذكاء أو ما لا ندري. فالزنبور مثلاً يصيد الجندب (النطاط) ويحفر حفرة في الأرض، ويحز الجندب في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ. وانثى (الزنبور) تضع بيضاً في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطراً على وجودها، ولابد أن (الزنبور) قد فعل ذلك من البداية وكرره دائماً، وإلا لما بقيت زنابير على وجه الأرض. والعلم لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة!
إن أنثى (الزنبور) تغطي حفرة في الأرض، وترحل فرحاً، ثم تموت. فلا هي ولا أسلافها قد فكرن في هذه العملية، ولا هي تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئاً يسمى صغاراً.. بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها.
والنحل والنمل يبدو أنها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها، فلها جنودها، وعمالها، وعبيدها، ويعاسيبها. ولكنك إذا التقطت قطعة كهرمان على شاطئ البلطيق، فقد تجد فيها نملة محبوسة منذ دهور لا تعد. وستجدها نسخة طبق الأصل من النمل الموجود الآن. فهل وقف التطور عن سيره حين طوبق بين النملة وبيئتها في الطبيعة؟ وهل كان ذهن النملة الصغيرة أداة أشد ضلالة من أن تضطلع بغرض أكبر، لا شك أن النملة بوصفها أصبحت حشرة اجتماعية، قد تعلمت الكثير، ويبدو أنها تطبق النظرية العجيبة القائلة (أعظم خير لأكثر عدد)، وأنها تظل بها إلى نهايتها المنطقية، كما فعل بعض أهالى الهند الشرقية من الجيل الأخير.
وفي بعض أنواع النمل، يأتي العمال منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل خلال فصل الشتاء. وينشئ النمل ما هو معروف (بمخزن الطحن)، وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت، فإن (أعظم خير لأكبر عدد) يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحان، فإن جنود النمل سقتل النمل الطاحن الموجود، ولعلها ترضى ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي إذا كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه.
وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منها ما يحلو لك)، إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميتة (بحدائق الأعشاش) وتصيد أنواعاً معينة من الدود والأرق أو اليرق. فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها، ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاماً لها.
والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب، وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها، تستخدم صغارها – التي وهي في الطور اليرقي تقدر أن تعزل الحرير – لحياكتها معاً. وربما حرم طفل النمل فرصة عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة.
فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟
لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك.
إن الإنسان وحده هو الذي أوتي عقلاً بلغ من التطور أنه يستطيع أن يفكر به تفكيراً عالياً. والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من الناي. نغمة جميلة ولكنها محدودة. في حين أن العقل البشري يحتوي كل الأنغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا. والإنسان يمكنه أن يوفق بين تلك الأنغام جميعها، وأن يقدم للعالم قطعاً موسيقية متحدة النغم (سيمفونيات) تدنو من الإعجاز. إلا أن في خلق الإنسان، لم تخرج العناية الإلهية كائناً حيًّا من بين الصخور الفطرية، وله عقل مرن كعقل الإنسان. والآن يمكننا أن نتصور إمكان تلقي الإنسان قبساً من نور الله يجعله سيداً على الأرض، عجيباً في مقدرته، باقياً في مصيره.

إن التطور لابد له، طبقاً لكل قانون من قوانين الطبيعة، والكيمياء، من أن يقصر أقصى حدوده على أكثر ما يمكن من المطابقة البيئية. يقال إن جمال ريش أحد الطيور إنما هو إظهار للجاذبية الجنسية، وبذا يمكن تفسيره، ولكن الرسم الجميل ليس ضرورياً لوجود الإنسان، وان تكن المرأة الجميلة لازمة لهذا الوجود.. ان المادة، كالذرات والصخور والماء، قد تتحد، وإذا نفخت فيها الحياة، فقد تتطور إلى إنسان. ولكن أيمكن لهذه العناصر، بعد إذ أتمت المطابقة الكاملة للبيئة الطبيعية، أن تقطع مرحلة أخرى، وتنتج رجلاً موسيقياً يستطيع أن يكتب الأنغام الموسيقية (النوتات) على الورق، ويسجل تناسقها البديع، ويصنع بيانو، ويخلب ألباب الجمهور المستمع، ويدع موسيقاه تسجل على أقراص من البلاستيك، وتذاع حول العالم عن طريق وسيط يسمى (الأثير) ولا تعرف الذرات شيئاً عنه سوى أنها توجد فيه أو بوساطته؟
إن بعض أنواع الحيوانات تتعاون في جهودها، فهي لا تصطاد إلا في جماعات، وهي تجمع غذاءها وتخزنه للمستقبل، وهي تضاعف جهودها الفردية بطرق شتى بفضل العمل المشترك، ولكنها لا يبدو أنها تخطو خطوة واحدة بعد ذلك.
أما الإنسان فإنه من جهة أخرى قد شيد الأهرام بمضاعفة القوة الفردية، ولكنه كذلك اكتشف الرافعة والطنبور، والعجلة، والنار. وقد جعل حيوانات الحمل مستأنسة، وأضاف إليها عجلته، وبذا أطال في ساقيه، وقوى من ظهره. وقد تغلب على قوة سقوط الماء، وتحكم في البخار والغاز، والكهرباء، وحوّل العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على الأجهزة الميكانيكية التي هي من مستحدثات عقله. وهو في انتقاله من مكان إلى مكان، قد فاق الظبي في سرعته، وحين ركب أجنحة لعربته، قد سبق الطيور في طيرانها، فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المادة وقع مصادفة؟
والجمال يبدو ملازماً للطبيعة، وجمال السحب، وقوس قزح، والسماء الزرقاء، والبهجة الرائعة التي تملأ نفس الناظر إلى النجوم، وإلى القمر في طلوعه، والشمس في غروبها، وإلى روعة الظهر الفائقة، كل ذلك يهز مشاعر الإنسان ويسحره.
وتحت الميكروسكوب تجد أصغر حيوان وأدق زهرة، تزينها خطوط من الجمال محكمة الصنع.
والخطوط البلورية التي للعناصر والمركبات، من ندفة الثلج إلى الأشكال الأصغر منها، إلى ما لا نهاية، هي مصادفة لدرجة مدهشة، حتى أن الفنان ليس بوسعه إلا أن يقلدها أو يجمعها معاً.
وكل ورقة من أوراق كل شجرة سليمة مشكلة في أكمل شكل، وتخطيط كل نبات يعمل بصفة فردية، وبخطوط فن أصيل، والأزهار مشكلة برشاقة وبتنظيمات كاملة، وتخطيطها وفق تصميمات صحيحة، وألوانها موزعة بشكل مدهش، ومن النادر، إن لم يكن من المحال، أن تختلط معاً.
والحيوان الكامل هو شيء جميل، وحركاته مملوءة بالسهولة والرشاقة. وحينما تطور مخلوق عن طريق المطابقة الضرورية البيئية، وبدا غير متناسب الشكل، فإنه يبدو فريداً في نوعه حتى ليحسبه الناظر إليه تعبيراً فنياً عن إحدى المضاحك.
إن الوادي الأخضر، والنهر والأشجار الباسقة، والصخور، والجبال التي يجلل قممها الثلج – كل أولاء تحدث في النفس أثرا عميقاً. وإن الإنسان ليستمد البهجة من رؤية كثبان الرمال الفسيحة الممتدة في الصحراء.
وإن التتابع الفاخر لأمواج المحيط، وتلاطمها على أرض الشاطئ، وتحليق الطيور في الجو. سواء فوق البحر أو على طول الشاطئ أو في الغابة مع ألوانها المكيفة، كل ذلك يتحدى من له عين يرى بها، وعقل يقدّر به.
وإن حركات السمك، وتموجات حشائش البحر في نعومة تحت سطحه، لتملأ نفس الإنسان بشعور من الانسجام يستجيب إلى تشوقه.
والطبيعة إذا لم تنلها يد التشويه، تبدو كأنها أعدت لكي تستدر أسمى الشعور في نفوسنا، وتلهمنا الإعجاب بصنع الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكل كمالها غير الإنسان! والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مرتبة يكون فيها أقرب إلى الله.
ويبدو أن (الغاية) جوهرية في جميع الأشياء، من القوانين التي تحكم الكون، إلى تركيبات الذرة التي تدهم حياتنا، وإذا لم يكن في التطور من غرض سوى أعداد أساس مادي لتلقي الروح، فان هذه غاية مدهشة في حد ذاتها.
وإذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنسبة لكل الأشياء، وإذا آمنا بأن الإنسان هو أهم مظهر لتلك الغاية، فإن الاعتقاد العلمي بأن جسم الإنسان وجهاز مخه ماديان، قد يكون سليما. فإن الذرات والهباءات في المخلوقات الحية تفعل أفعالاً مدهشة، وتبني أجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النفع ما لم يحركها العقل بحركات ذات غرض. فهناك إذن خالق للكون لا يرقى إليه تفسير العلم، ولا يقدر أن ينسبه إلى المادة.

* كريسي موريسون-العلم يدعو للإيمان

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة