علمٌ وفكر

التفويض


الإمام الخميني قدس سره ..

إن مسألة الجبر والتفويض بما هي معنونة في مسفورات أهل الكلام، فرع من فروع أصل المسألة العقليّة. ونطاق البحث العقلي أوسع منه بل من بين السماء والأرض كما سيتّضح، ولعلّه إليه الإشارة فيما ورد أنّ بين الجبر والتفويض منزلة أوسع ممّا بين السماء والأرض، فتأمّل.
فنقول: هل المعلولات الصادرة من عللها، والآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء، والمسبّبات المربوطة بالأسباب، والأفعال الصادرة عن الفواعل، سواء في عالم الملك أو الملكوت أو المجرّدات أو الماديّات، وسواء صدر عن الفواعل الطبيعيّة كإشراق الشمس وإحراق النار، أو الحيوانيّة والإنسانيّة، أو الآثار والخواصّ المترتّبة على الأشياء كحلاوة العسل ومرارة الحنظل، وسواء كان الفاعل مُختاراً أو لا، وبالجملة كُلّ ما يترتّب على شيء بأيّ نحو كان، هل هو يترتّب عليه وصادر منه على سبيل الاستقلال والاستبداد بحيث لا يكون للحقّ – جلّ شأنه – تأثير فيها، وإنّما شأنه تعالى خلق المبادئ فقط ونسبته إلى العالم كالبنّاء والبناء بحيث يكون بعد الإيجاد منعزلاً عن التأثير والتدبير، ويكون الشمس في إشراقها والنار في إحراقها والإنسان في أفعاله والملائكة في شؤونها مستقلاتٌ ومستبداتٌ، ويكون وجود البارئ وعدمه والعياذ بالله في فاعليّة العبد ومنشأيّة الوجودات للآثار على السواء، وأنه تعالى أوجد العقل مثلاً وفوّض الأمر إليه أو أوجد المكلّف وفوّض أفعاله إليه، أو أنّه تعالى كما هو فاعل المبادئ فاعل الآثار بلا وسط ولا فاعليّة ولا تأثير لشيءٍ من الأشياء ولا علّيَّة لموجودٍ بالنسبة إلى غيره ولا خاصيّة لموجودٍ، بل الأشياء كلّها منعزلة عن العليّة والتأثير والخواصّ والآثار، لكن جرت عادة الله بإيجاد أشياء عقيب أشياء كالإشراق عقيب وجود الشمس والإحراق عقيب النار والإرادة والقدرة في الإنسان، والفعل عقيب الإرادة، والعلم بالنتائج عقيب الأقيسة، والأشياء كلها على السواء في عدم التأثير لكن الجاهل بالواقع يرى ترتّب الآثار على المؤثّرات غفلةً من حقيقة الأمر، حتّى أنّ قوله كلّ إنسان حيوان وكلّ حيوان جسمٌ لا ينتج كلّ إنسان جسمٌ.
 وكانت نسبتها إلى النتيجة كنسبة ضرب فعل ماضٍ ويضرب فعل مضارع بالنسبة إليها لكن جرت عادة الله تعالى على إيجادها عقيب الأوليين لا الأخيرتين، فالتفويضي يرى انعزاله تعالى عن التأثير مطلقاً إلا في المبادئ والجبري يرى انعزال الخلق عنه واستناد الكلّ إليه تعالى بلا وسطٍ وبنحو المباشرة.


ردّ مذاهب جبر وتفويض
أمّا التفويض
- فلأنّ استقلال موجودٍ في الإيجاد إنّما يعقل إذا سدّت العلّة جميع الأعدام الممكنة على المعلول وإلا لم يكن مستقلاً فيه، فإذا توقّف وجود المعلول على ألف شرطٍ وكان في قدرة الفاعل إيجاد ما عدا واحدٍ منها فسدّ عدم المعلول من ناحيته ما عدا الواحد منها لم يكن علّة تامّةً مستقلّةً ولا فاعلاً بالاستبداد والاستقلال في الإيجاد؛ وهذه المقدّمة ضروريّة لا تحتاج إلى الإثبات. ومن الأعدام الممكنة على المعلول عدمه بعدم فاعله ومقتضيه، وليس في شأن ممكنٍ من الممكنات مجرّداً كان أو ماديّاً سدّ هذا العدم وإلا انقلب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات.
- وأيضاً المعلول بالذات في الفاعل الإلهيّ أي فاعل الوجود بتمام هويّته وحاقّ حقيقته وذاتيّته متعلّقٌ ومفتقر إلى العلّة ويكون ذاته بذاته عين الافتقار والتعلق وصرف الربط والاحتياج، ولو كان شيئاً له الافتقار حتّى يكون افتقاره زائداً على ذاته وتعلّقه بالعلّة عارضاً على أصل هويّته يلزم أن يكون واجباً في وجوده وجوهره وعرضه المعلوليّة، وهو واضح الاستحالة، ومرادنا من المعلول بالذات هو وجود الممكن الذي هو أثر جعل الجاعل، وإلا فالماهيّات ليست مجعولةً ولا موجودة إلا بالعرض، لكونها اعتبارات وانتزاعات من حدود الوجود.
والوجود المعلولي ذاته الافتقار والتعلّق ولو استغنى في حيثيّةٍ من الحيثيّات ينقلب من الإمكان والافتقار الذاتي إلى الوجوب والاستغناء وهو مستحيلٌ بالضرورة.
- وأيضاً المستقلّ في الإيجاد لا بدّ وأن يكون مستقلاً في الوجود لأنّ الإيجاد فرع الوجود، ولا يمكن أشرفيّته عنه.
فالتفويض بمعنى جعل الممكن مستقلاً في الفاعليّة مستحيلٌ ومستلزم للانقلاب المستحيل، سواءٌ في ذلك المجرّد والماديّ، والفاعل المختار وغيره، فلا يعقل تفويض الإيجاد والفعل والأثر والخواصّ إلى موجود. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73 – 74].

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة