علمٌ وفكر

المشيئة الإلهية والقضاء والقدر (1)


تمهيد
يطرح النّاس قضيّة مهمّة في حياتهم ترتبط بحدود اختيارهم مقابل إرادة الله تعالى، فبعضهم لا يتصوّرون أنّ للإنسان أيّة إمكانيّة لمواجهة القضاء والقدر الإلهيّ، فيختارون القعود وعدم السّعي تحت عناوين مختلفة، وبعضهم يسعى لتفسير القضاء والقدر بطريقةٍ تُبْقي للإنسان الحرّيّة التّامّة لكي يفعل ما يشاء.
إنّ طريقة الدّخول على هذه القضيّة من الأساس هي التي جعلت السّير فيها أمرًا معقّدًا. أمّا لو علم الإنسان أنّه لا يمكن لأيّ مخلوق أن يكون في قبال الخالق، سواء من ناحية الإرادة والاختيار أو من ناحية الاستسلام والقعود، لما اتّجه نحو تلك الآراء الخاطئة.
فإنّ إرادة الله في حكمه وقضائه وفعله وتنفيذه، وكذلك في تقدير الأشياء في مقادير محدّدة ليست ولا يمكن أن يكون في مقابلها أيّة إرادة حتّى نقول بالحرّيّة أو الجبريّة. وعلينا أن نفهم كيف تتجلّى الإرادة الإلهيّة في عالم الوجود في الوقت الذي تكون المشيئة للإنسان.
وحاصل القضيّة أنّ الإنسان مهما كانت اختياراته، فإنّه لن يغيّر شيئًا في المشيئة الإلهيّة التي اقتضت أن يسير العالم نحو هدف محدّد ومقصد معيّن.


القضاء والقدر يعبّران عن المشيئة
إنّ معنى القضاء الإلهيّ بشأن حوادث العالم هو أنّ هذه الحوادث توفّرت على الحتميّة والقطعيّة من قبل ذات الحقّ، فحكم الحقّ القطعيّ بشأنها هو كذا وكذا. ومعنى التّقدير الإلهي هو أنّ الأشياء اكتسبت مقدارها ومقياسها من قبل الحقّ، وحيث إنّ الله تعالى فاعلٌ بالعلم والمشيئة والإرادة فيرجع القضاء والقدر إلى علمه وإرادته ومشيئته1.
لقد أثارت هذه القضيّة مشكلة بين الفلاسفة الإلهيّين والمتكلّمين عندما لاحظوا قانون العلّة والمعلول وانتهاء الحوادث والممكنات إلى الذّات الواجبة الوجود، وأنّه من المستحيل أن تلبس أيّة حادثة ثوب الوجود دون استنادها لإرادة الله، وبعبارةٍ أخرى: إنّهم توجّهوا إلى التّوحيد في الأفعال، وأنّه لا يمكن أن يكون هناك شريكٌ في ملك الوجود لله تعالى.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد تنبّهوا إلى أمرٍ يدركه حتّى العوام من النّاس، وهو أنّ المساوئ والفحشاء والذّنوب لا يمكن نسبتها لله، لذا تحيّروا بين التّنزيه والتّوحيد، فتصوّر بعضهم في ظلّ (التّنزيه) أنّ إرادة الله ومشيئته لا تتعلّقان بأفعال العباد وأعمالهم المتّصفة أحيانًا بالسّوء والفحشاء، في حين تصوّر بعضهم الآخر في ظلّ (التّوحيد) وأنّه "لا مؤثر في الوجود إلاّ لله" أنّ كلّ شيء يستند إلى إرادة الله2.
هذه المسألة كانت مشكلة ومجهولًا علميًّا قبل أن تثيرها دوافع سياسيّة واجتماعيّة، وتتدخّل فيها.
فلم يكن مقبولًا لدى بعضهم أن يكون كلّ شيء حتى السّيّئات منتسبًا إلى الله، فكانوا ينزّهون الله عن تلك السّيّئات في حين كان الذين يقولون أنّ العالم قائمٌ بالذّات الإلهيّة، وأنّ كلّ موجود يستمدّ المدد منه تعالى، كان هؤلاء يرفضون أن يكون هناك موجودٌ مستقلٌّ في فعله، وأن يريد الله شيئًا ثمّ يريد ذلك الموجود شيئًا بخلافه، ثمّ يتحقّق ما أراده ذلك المخلوق خلافًا لما أراده الله... ومن هنا نشأ الاختلاف3.


تفسير الحوادث الكونيّة4
الحوادث الكونيّة من زاوية كونها تحت علم الله ومشيئته الحتميّة تندرج تحت القضاء الإلهي، ومن زاوية كونها محدّدة بمقدار معيّن من حيث الموقع الزّمانيّ والمكانيّ تندرج في التقدير الإلهيّ.
إنّ الحوادث الكونيّة عمومًا لا بدَّ وأن تنطوي تحت واحد من ثلاثة فروض:
1- إنّها لا ترتبط بالماضي المتقدّم عليها تقدّمًا زمانيًّا أو غير زمانيّ، فلا يرتبط وجودها بسوابقه ولا ترتبط خصوصيّاتها بذلك أيضًا. ومع هذا الفرض لا معنى للقضاء والقدر بعد إنكار التّرابط بين وجودها أو خصوصيّاتها الزّمانيّة والمكانيّة وبين الماضي والتّعيّين المسبق. وعلى هذه النّظرة يجب إنكار مبدأ العلّيّة، وقبول الصّدفة كمفسّر لوجود الأشياء.في حين أنّ مبدأ (العلّيّة العامّة) والتّرابط الضروريّ القطعيّ بين الحوادث بمعنى أنّ كلّ حادثة تستمدّ حتميّتها وقطعيّتها وقدرها وخصوصيّاتها الوجوديّة من أمرٍ أو أُمورٍ أخرى مقدّمة عليها، أمرٌ مسلّم لا يقبل الردّ.
2- أن يقال بأنّ كلّ حادثة لها علّة متقدّمة عليها مع إنكار نظام الأسباب والمسبّبات القائم بين الحوادث، والقول بأنّها كلّها معلولة مباشرة لعلّة واحدة هي الله تعالى، فليس في العالم إلاّ علّة وفاعل واحد وهو الذّات الإلهيّة، ومنها تصدر كلّ الموجودات مباشرةً، وإنّ إرادته تتعلّق بكلّ حادثة بشكلٍ مستقلّ عن إرادته الأخرى، كأن نفرض الأمر هكذا: القضاء يعني العلم والإرادة الإلهيّة بوجود أي موجود، وهو مستقلّ عن أيّ علمٍ وقضاءٍ آخر. وهنا يجب أن نسلّم أنّ ليس هناك فاعل إلاّ الله، فقد تعلّق علم الله في الأزل بأن تقع الحادثة الفلانيّة في الوقت الفلانيّ، ولا بدَّ من أن تقع تلك الحادثة، مع عدم تدخّل أيّ شيء في وجودها. وأفعال الإنسان وأعماله من هذا القبيل، فإنّ الذي يوجد هذه الأفعال والأعمال مباشرةً وبلا واسطة هو القضاء والقدر الإلهيّ، أي العلم والإرادة الإلهيين. أمّا الإنسان نفسه وطاقته وقوّته فليس لها دخلٌ في الأمر مطلقًا، وإن كان لطاقته وقوّته دورٌ ظاهريّ وتمثيلٌ خياليّ لا أكثر. وهذا هو بعينه مفهوم الجبر والمصير المحتّم، وهذا هو الاعتقاد الذي لو حلَّ في مجتمعٍ أو فردٍ فإنّه يحطّم الحياة ويجرّها إلى الفناء. وهذه الفكرة - بالإضافة إلى مفاسدها العمليّة والاجتماعيّة - مردودةٌ منطقيًّا، فلا تردّد من زاوية البراهين العقليّة والفلسفيّة في بطلان هذه الفكرة... وإنّ التّرابط العلّيّ والمعلوليّ بين الحوادث ممّا لا يقبل الإنكار، وليست العلوم الطّبيعيّة والمشاهدات الحسّيّة والتّجريبيّة وحدها الدّليل على نظام الأسباب والمسبّبات، بل إنّ المعارف الإلهية أقامت أتقن البراهين على هذا الأمر، علاوة على أنّ القرآن الكريم قد أيَّد نظام الأسباب والمسبّبات كذلك.
3- القول بأنّ مبدأ العلّيّة ونظام الأسباب والمسبّبات حاكمٌ على العالم وجميع الحوادث والوقائع فيه، فكلّ حادثٍ فيه يكتسب ضرورة وجوده وشكله وخصوصيّاته الزّمانيّة والمكانيّة وسائر الخصوصيّات الوجوديّة من علله المتقدّمة عليه، وأنّ هناك رابطة قويّة لا تنفصم بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين كلّ موجود وعلله المتقدّمة عليه. وعلى هذا الأساس فإنّ مصير كلّ موجود بيد موجودٍ آخر هو علّته التي أوجبت وجوده وأعطته الحتميّة والضّرورة، ومنحته خصوصيّاته الوجودية، وإنّ تلك العلّة بدورها معلولة لعلّة أخرى، وهكذا. وعليه، فإنّ لازم قبول مبدأ العلّيّة العامّة قبول أن كلّ حادثة تستمدّ حتميّة وجودها وخصوصيّاتها وشكلها ومقدارها وكيفيّتها من علّتها... ولا يختلف الأمر هنا بين ما لو كنّا إلهيِّين مسلكاً، ونؤمن بأنّ أصل كلّ الإيجابات (القضاءات) وأصل كلّ التعيّنات (أنواع القدر) هي علّة العلل وبين ما لو كنّا لا نعتقد بذلك ولا نعرف مثل هذه العلّة الأولى. ولهذا فمن الزاوية العمليّة والاجتماعيّة لا فرق في هذه المسألة بين الإلهيّ والمادّيّ، ذلك لأنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر يستمدّ مبرّراته من الاعتقاد بمبدأ العلّيّة العام ونظام الأسباب والمسبّبات، سواء أكان ممَّن يعتقدون بهذين المبدأين من الإلهيَّين أم من الماديِّين. نعم، الفرق بينهما أن القضاء والقدر في نظر المادّي أمرٌ عينيّ خارجيّ صرف، في حين أنّ القضاء في نظر الإلهي عينيّ وعلميّ، بمعنى أنّ المادّي يرى أن مصير أيِّ موجود يعيّن لدى علله الماضية دون أن تعلم هذه العلل بما لديها من دور وخاصّية، في حين يرى الإلهي أنَّ سلسلة العلل الطولية ( أي العلل التي هي فوق الزمان) تعلم بعملها وخواصها. ومن هنا فإنّ هذه العلل تسمى في المدرسة الإلهية بأسماء (الكتاب) ( اللوح) (القلم) وأمثال ذلك، مع أنّه ليس هناك شيء في المدرسة المادّية يستحقّ هذه الأسماء.

إنّ القضاء والقدر لا يعنيان إلا ابتناء نظام السببية العامّة على أساس العلم والإرادة الإلهيّين. ومن لوازم قبول مبدأ العلّية وضرورة حصول المعلول، عند حصول علّته والسّنخيّة بينهما، أن نقول إنّ مصير أيِّ موجود مرتبط بالعلل السّابقة والمرتبطة به، سواء وُجد مبدأٌ إلهيّ أم لم يوجد، أي سواء أكان نظام السّببية نظاماً مستقلًّا وقائماً بذاته، أم كان قائماً بغيره ومستندًا للمشيئة الإلهية. ذلك أنّ كون النظام السببي مستقلّاً وقائماً بذاته أو غير مستقلّ لا تأثير له في مسألة المصير والحريّة الإنسانيّة.


* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج2، ص745.
2- أنسنة الحياة في الإسلام، الإنسان والقضاء والقدر، ص.342.
3- (م. ن)، ص 343.
4- (م.ن)، ص 244-247.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة