قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

مجابهة القرآن

 

الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي .. 

لقد ركّزت بعض كلمات الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة على ضرورة التمسّك بالقرآن الكريم؛ لاجتناب الفتنة والضلال، ومعالجة المآسي والمشاكل الفردية والاجتماعية، وقيل أيضاً إنّ تفسير وبيان القرآن بما يعنيه من بيان أحكام القرآن الكريم، وشرح تفاصيل المسائل والواجبات الدينية من صلاحية الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) فقط، وجرى أيضاً توضيح هذا المعنى وهو أنّ تفسير القرآن خارج إطار الأحكام والواجبات الدينية، وشرح معارفه للآخرين يدخل فقط ضمن صلاحية المتخصصين وعلماء الدين والعارفين بعلوم القرآن وأهل البيت، وقلنا إنّ العلماء الذين أمضوا أعمارهم في فهم معارف الدين وعلوم أهل البيت، هم وحدهم القادرون على التمييز بين متشابهات ومحكمات القرآن، ويمكنهم من خلال الاستعانة بالمحكمات وروايات أهل البيت ( عليهم السلام )، تفسير متشابهات القرآن وبيان معارفه للناس؛ لكي يتسنّى لهؤلاء الناس اتخاذ ذلك قاعدةً لحركتهم الفكرية، وجعله مثالاً عملياً لتكاملهم الفردي والاجتماعي، وتلبية الدعوة الإلهية : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) وتوفير الأرضية لفلاحهم. 
وفي المقابل أشرنا إلى أنّه كان هناك منذ القدم مَن يحاولون إبعاد الناس عن القرآن بالهواجس والوساوس الشيطانية، ولكي يحقّق هؤلاء الأشخاص أهدافهم فهم يحاولون وبأساليب تخيّلية الإيحاء بأنّ القرآن متعذّر فهمه، وبالنتيجة ينبغي أن لا نرجو من القرآن أن يوجّهنا ويرشدنا في الحياة، وقلنا إنّ هذه الشبهة الشيطانية كانت مثارةً على مدى التاريخ بصور شتّى، وقد بلغت اليوم ذروتها بشكلها المتكامل، وغدت تطرح بأنماط جديدة، حتى بات معارضو القرآن والثقافة الدينية اليوم يطرحون خيالاتهم أحياناً على شكل نظرية، مفادها أنّ ( لغة الدين لغة خاصّة)؛ لكي يخدعوا بهذه الطريقة من ليس لديهم وعياً كافياً بالعلوم والمعارف الدينية، وعندما يُسألون عن مرادهم من القول بأنّ ( لغة الدين لغة خاصة )، يقولون عند الإجابة عن هذا السؤال بأنّ التعاليم الدينية والقرآن عبارة عن ألفاظ وقوالب، يشكّل محتواها أفهام وذهنيات الناس أنفسهم، ومن الطبيعي أنّ هؤلاء الأشخاص ينتقون عادةً عبارات أدبية، وينشدون الأشعار الحماسية، ويطرحون من خلال ذلك نظريتهم بنحو لا يفهم المرء هدفهم ومقصودهم بسهولة، لأنّه سيدرك حينذاك خواء كلامهم. 
يبدو أنّ التفكير المذكور الذي يُطرح تارةً تحت عنوان ( الصُرط المستقيمة)، ويُطرح تارةً أخرى تحت عنوان ( الأفهام، والقراءات، والتفاسير المختلفة للدين )، وقد يُطرح ثالثةً في قالب نظريات ( لغة الدين ) أو ( الدين الأقلّي والأكثري )، لا يستهدف إلاّ مجابهة المعتقدات الدينية والفكر التوحيدي، ولا يخفى على المطّلعين، بأنّ المتديّنين وخاصّة المفكرين المسلمين النابهين أوعى من أن لا يدركوا بُعد كلام هؤلاء عن العقل والمنطق، أو أن يجهلوا الأهداف الخفية لمَن يروّجون لهذه الشبهات الواهية. 
دافع وهدف المعارضين للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن 
وفي ضوء ما سبق عرضه من الموضوعات يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال وهو، ما الهدف الذي يسعى إليه المعارضون، من وراء اتّباع هذه الأساليب الشيطانية في مجابهة القرآن والثقافة الدينية للشعب ؟ ولغرض الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أوّلاً تسليط الضوء على رأي القرآن، ثمّ نأتي بعد ذلك على شرح كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة حول هذا الموضوع.

يُفهم من القرآن بأنّه منذ أَوائل نزوله انبرى الشيطان وسخّر كل طاقاته محاولاً استغلال مواطن ضعف شياطين الإنس وعبيد الدنيا؛ لإبعاد الناس عن القرآن، ومن البديهي أنّه لا يُرتجى من الشيطان غير ذلك؛ لأنّه سبق وأن أقسم : (فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وفي سياق تطبيق الشيطان لخطّته الهادفة إلى إضلال الناس وحرمانهم من معارف القرآن، فهو يتشبّث بالمتشابهات من آيات القرآن، ويحثّ عبيد الدنيا وأولياءه على اتّباع متشابهات القرآن بدون الالتفات إلى محكماته، لكي يتسنّى له عن طريقهم إلقاء الشبهات والشكوك إلى الآخرين وإضلالهم، لقد قال الباري تعالى، بعد تقسيمه آيات القرآن الكريم إلى محكمات ومتشابهات : (فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) فالذين يعج وجودهم انحرافاً ولوثاً وعبادةً للذات والمريضة قلوبهم، والواقعون تحت تأثير إيحاءات الشيطان، يتركون محكمات القرآن والعقائد المسلّمة والواضحة للدين، ويحاولون مستندين إلى ظاهر الآيات المتشابهة إضلال الناس من خلال الكلام والتفاسير الخاطئة والتحريف في معارف القرآن، أمثال هؤلاء ربائب الشيطان الذين يعينونه على تحقيق غايته، والقرآن الكريم يصفهم بعناوين مثل : ( في قلوبِهِم زيغٌ ) أو ( في قلوبِهِم مرضٌ ) ويحذّر الناس من اتّباعهم. 
إنّ ما يُبحث في هذا المجال هو، بيان دوافع أمثال هؤلاء الناس في معارضتهم للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن، فالقرآن الكريم ينصّ على أنّ مَن يتّخذون متشابهات القرآن ملاكاً لفكرهم وعملهم بقصد ( ابتغاء الفتنة )، ويتذرّعون بالمتشبهات أو بتأويلات وتفسيرات سقيمة للآيات، يتركون ظاهر القرآن ويثيرون الفتنة. 
السؤال الذي يُثار هنا هو ما معنى الفتنة ؟ وما ابتغاء الفتنة ؟ قال علماء اللغة، وخاصة مَن يحرص منهم على إرجاع الكلمات إلى أصولها، وتفسيرها في ضوء معناها الأصلي، بأنّ الفتنة تعني أساساً تسخين الشيء على النار، فعندما يوضع الشيء على النار لتسخينه أو حرقه أو إذابته، فالعرب يقولون عن هذا العمل ( فتنة )، وفي القرآن الكريم استخدمت كلمة ( فتنة ) بهذا المعنى اللغوي، فحينما يقول : ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ )، أي يوم يحرَقون بالنار. 
وعلى هذا الأساس فإنّ أصل المعنى اللغوي لـ ( الفتنة ) هو الحرق والإذابة، ولكن كما يقول علماء اللغة : إنّ المعنى اللغوي يسري أحياناً على لوازمه أو ملزوماته في ضوء ما لذلك المعنى اللغوي من اللوازم، ويغدو ذلك اللازم تدريجياً بمثابة معنىً ثانٍ وثالث للكلمة من خلال إشراب قرينة المعنى، واستعمال تلك الكلمة في قرينة المعنى، وهكذا الحال بالنسبة إلى كلمة الفتنة أيضاً؛ لأنّه كما سبق القول فإنّ كلمة ( الفتنة ) تعني أصلاً التسخين، بيد أنّ للتسخين قرينةً وهي أنّ التسخين والوضع في النار إذا حصل للإنسان كما جاء في الآية ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يجعله في حالة من الاضطراب، وقد يكون الاضطراب جسمياً وظاهرياً تارةً، مثلما يتعلق في الحرق والكي الجسماني، وقد يكون تارةً أخرى ناجماً عن أمور باطنية ونفسية. 
إذاً، فالاضطراب في الواقع من قرائن الفتنة والتسخين ثمّ أُطلق هذا اللفظ من باب التوسّع في معنى اللفظ، على الأشياء الأخرى التي تؤدّي إلى الاضطراب المعنوي والباطني، وبما أنّ قسماً من الاضطرابات النفسية تحصل من القلق والشكوك في مجال العقائد، فقد أُطلق على ما يُسبّب مثل هذه الاضطرابات اسم الفتنة. 
وعندما يقال ( الفتنة في الدين ) فذلك؛ بسبب ما يقوم به بعض الأشخاص من محاولات إلقاء الشكوك الوهمية الباطلة؛ لزعزعة معتقدات وإيمان الناس المتديّنين وصدّهم عن دين الحق وعن العقائد الدينية. 
وقد سُمّي الامتحان ( فتنة ) أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى إثارة القلق والاضطراب؛ وذلك لأنّ الإنسان يبقى أثناء الامتحان مضطرباً وقلقاً، ولا يقر له قرار من أجل النتيجة، وقد وردت كلمة الفتنة في العديد من آيات القرآن بمعنى الاضطراب الناجم عن الامتحان، جاء في القرآن الكريم : ( أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) ( وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) وقد تُطلق كلمة الفتنة على العذاب والأذى.

من البديهي أنّ الآية الموضوعة على بساط البحث : ( هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ )، جاءت فيها كلمة ( الفتنة ) بمعنى الفتنة في الدين؛ وذلك لأنّ اتّباع المتشابهات لا يتناسب مع معنى الامتحان والابتلاء، والذين يتبعون متشابهاته لا يبغون إيذاء وتعذيب الآخرين، وكذلك الفتنة هنا لا تعني الحرق والكي بالنار، وإنّما فتنتهم تأتي انطلاقاً من محاولتهم التشبّث بالآيات المتشابهة من أجل؛ إيجاد القلق في نفوس الناس وزعزعة معتقداتهم الدينية وإضلالهم.

* تجلي القرآن في نهج البلاغة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة