علمٌ وفكر

العلم والروح (1)


الشهيد مرتضى مطهري ..

نعرض في هذا البحث الجنبة العلميّة المعاصرة للروح. وإذ نتحدّث عن الجنبة العلميّة فهذا لا يعني أننا نكتفي بمجرّد نقل ما قَبِله علماء العلم الحديث، بل نقوم بممارسة الاستدلال وفق الصيغ والقوانين التي سلّم بها هؤلاء العلماء مع ملاحظة أنّنا نجد العلم الحديث. قد انحسرت قدرته وضعفت عن البيان عندما تجاوز الأمر حدود الحسّ. لهذا لا يمكننا أن نسلّم بكلّ ما أتى به العلماء المعاصرون بشكل تامّ وأعمى، بحيث إذا أنكروا الروح أنكرناها وإذا آمنوا بها آمنا، بل نستفيد من طروحاتهم لنصل بالعلم إلى أرقى مقاماته.


1- برهان التغيّرات في الكون
يقوم هذا البرهان على أساس أنه لا يمكن علميّاً- وبالاعتماد على عنصري المادّة والطاقة فقط- كما يفعله الماديون- تفسيرُ وجود بعض الظواهر الكونيّة، لا سيّما التحوّلات والتغيّرات في الكائنات الحيّة، خاصّة الإنسان، كما لا يمكن تقديم تعليل للاختلافات والتنوّعات التي تحصل في مواد هذا الكون وفقاً للعنصرين المذكورين، بل لا بدّ من وجود عنصر ثالث يعلّل ذلك التحوّل والتغيّر وتلك الاختلافات والتنوّعات، التي نراها ونشاهدها عياناً وبالحواسّ الماديّة.
تفصيل ذلك أنّ صور وحالات الموادّ الأوليّة للكائنات غير ثابتة، فهناك تغيّرات وتحوّلات تحصل فيها دائماً، كما أنّ بين هذه الموادّ اختلافات، كلّ ذلك ناشئ عن الصفات والخواصّ الموجودة في طبيعة الأشياء والعناصر وكيفيّاتها، بحيث أدّت إلى عدم ثبات موادّ العالم وحالاتها. ولا بدّ أن يكون وراء هذا التغير والتحول والاختلاف قصد وإرادة وحركة معينة. وهذا القصد والإرادة غير موجودين في المادة والطاقة، فلا يبقى إلا أنّ ثمّة عنصرًا ثالثاً في هذا الكون يكون المسؤول عن هذه الأمور.
أما عن مكان هذا العنصر أو مركزه فليس له محلٌّ أصلاً، كما أنّ هذا العنصر ليس من سنخ الموجودات المحسوسة لنا، ولا من عناصر هذا العالم المادي، فهو أمر غير عنصرَي المادّة والطاقة، وإذا لم يكن مادّة فليس له حجم أو حدّ يحدّه، بل إنّ لهذا العنصر قوة تمكنّه من أن يكون حاكماً على المادّة مهيمناً عليها، كما نرى أثره في الإنسان من خلال العبادات كالصوم مثلاً، حيث يحصل الصائم على استقلالية بنحوٍ يخرج من إسار الطبيعة ويتحرّر منها، وكذلك الأمر في التنويم المغناطيسيّ إذ يخضع الإنسان لتأثيره بحيث يهيمن على جميع قواه. وهذه النقطة تمثّل ذروة تسلّط الروح على البدن، وهي تعكس ذروة تسلّط الإرادة الموجودة في البعد الثالث، وتُبرز هيمنتَها على المادّة والطاقة.
وبناءً عليه يتبيّن أنّه بالمقدّمات التي ذكرناها تثبت الروح المجرّدة، فإننا عندما نتحدّث عن بُعدٍ ثالث ليس له أصول ماديّة، وأنّه غير متغيّر ولا متحوّل في ذاته، وأنّه مجرّد عن المكان، نكون قد أثبتنا الروح المجرّدة، فإنّ معنى التجرّد ليس سوى التجرّد عن هذه النواقص المذكورة.
من ناحية أخرى لا بدّ أن يكون هذا العنصر، الذي يهيمن على المادّة ويقبل التلقين، واعياً، بحيث يرتبط به شعورنا الإراديّ الواعي، الذي لا يمكن أن يرتبط بالعنصر المادّي ولا بالطاقة.


2- برهان التكامل
يعدّ تكامل الموجودات الحيّة وتطوّرها من مظاهر الحياة التي لا تقبل الإنكار، فيما ليس بمقدور العلم المعاصر، بقوانينه الحاكمة وبجهاز عناصره- القائم على افتراض عنصرين فقط في إطار الزمان والمكان (المادّة والطاقة)- تفسير هذا التكامل، بل لابدّ من إثبات عنصرٍ ثالثٍ وبُعدٍ آخر غير المادة والطاقة يفسر لنا ظاهرة التطور في الحياة.
وتوضيح ذلك:
إنّ جنبة الإنسان الماديّة التي تخضع لقوانين العلم الحديث- التي تشمل كلاًّ من المادّة والطاقة- تسير نحو التداعي والتلاشي، حيث تخضع لقانونين:
القانون الأوّل: قانون التداعي والكهولة (الآنتروبي) القائل بأنّ كلّ مادّة في هذا العالم تتجه منذ اللحظة الأولى نحو الهرم والضعف، حتى تضمحل وتتلاشى، كما هو الحال في الآلات الصناعيّة، فإنّها تكون في أول يوم من إنتاجها أقوى وأشدّ وأكثر سلامة من أيّ وقت آخر، ثمّ تراها تضعف وتتداعى وتبلى كلّما مرَّ عليها الزمن.
القانون الثاني: وهو القانون المضادّ لل (الآنتروبي)، وهو حالة يطلق عليها اسم (الطاقة المفيدة أو المؤثرة)، وهي تظهر بأشكال مختلفة، كما أنّها قابلة للإستفادة.
والعلاقة بين القانونين هي النسبية المعاكسة، أي كلما يزداد الآنتروبي تقلّ الطاقة المؤثّرة، ففي كل كائن حيّ رصيد من الطاقة المؤثرة يستفيد منها في نموّه، وتكون هذه الطاقة في أوج عطائها في اللحظات الأولى لنشأته، وعندما يستفيد منها في نموّ هيكله وجسمه تبدأ بالتضاؤل يوماً بعد يوم، لتزداد على حسابها الطاقة المضادّة لها (الآنتروبي) أي انحدار الإنسان نحو التداعي والشيخوخة، ويستمرّ ازدياد الآنتروبي على حساب تضاؤل الطاقة المؤثرة إلى الحدّ الذي تظهر فيه حالة الركود والتعادل وعدم الحركة في الإنسان وهي الموت نفسه، سواء أكان الموجود حيّاً أم غير حيّ.

وخلاصة القول: إنّ لكل إنسان رصيداً تاماً من الطاقة المؤثّرة في أول مرحلة من نشوئه، تبدأ هذه الطاقة بالضعف والإضمحلال فتقلّ حركته شيئاً فشيئاً، ويسير بذلك نحو الموت، وهذا ما يعبّر عنه الإمام عليّ عليه السلام بأنّ الإنسان يتحرّك نحو الموت منذ اليوم الأول لولادته.
هذا في الجنبة الماديّة والنموّ الظاهريّ للإنسان. إلا أننا نرى في الإنسان جنبة أخرى، وتلك هي النموّ الجوهري له، فإنّنا نرى الإنسان في مسيرة حياته يسير من ناحية أخرى نحو التكامل والتطوّر، تشتدّ ذاته ويقوى جوهره، ويتّجه تدريجيّاً نحو الشدّة والكمال، وليس نحو التداعي والضعف!.
فنحن نرى الإنسان كلمّا مرّ به الزمن، قطع شوطاً من العلم وحاز مجموعة من الملكات العلميّة والأخلاقيّة، فهو- في هذه الجنبة منه- دائماً في حالة تصاعديّة اشتداديّة، وهذا يتنافى تماماً مع التفسير العلمي، بل يعد محالاً علميّاً وفقاً للتفاسير القائمة على المادة والطاقة فقط.
والواقع أنّ للإنسان، إلى جانب المادة والطاقة التي تحكمها قوانين تسير بها نحو التداعي والاضمحلال، جنبة روحيّة وحياتيّة، تشهد منذ اللحظة الأولى لوجوده تكاملاً واشتداداً.
هكذا نرى أنّ القوانين الطبيعية لا تسري إلى تكامل الإنسان، كما أنّ الجهاز المؤلّف من عنصرين فقط- المادّة والطاقة- يقف عاجزاً عن تفسير هذا التكامل الحاصل.


ملاحظة مهمة:
إنّ هذا الاستدلال يتمّ بمجرّد أن يكون هناك تكامل ولو على مستوى الفرد، سواء أكان هناك تكامل آخر على مستوى النوع أم لا، حيث إنّ التكامل في أيّ شكل من أشكاله يحتاج إلى ذلك البعد الثالث، حيث لا يمكن لجهاز الطاقة والمادة ولا لقانون الآنتروبي تفسير هذا التكامل.
وفي النتيجة فإن قوانين العلم الحديث، بعنصريه- المادّة والطاقة- اللذين تمّ اكتشافهما، إنما تتحكّم بمسألة الهرم فالموت فقط، فيما يتحكم بمسألة الحياة وتجددها وتكاملها بعد ثالث غير المادّة والطاقة لا بدّ من وجوده في الإنسان.
فالتكامل- وطبقاً لما يراه القدماء- يحكي جنبة ما ورائية، أي ما وراء الجسم والمادّة (ما وراء الطبيعة).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة