علمٌ وفكر

العَدالَةُ


الشّهيد الثّاني ..

العَدالةُ لُغَةً: الاسْتِواءُ، يُقالُ: «فلانٌ عِدلُ فلانٍ» أي مُساوٍ له، ويُقالُ: «عادَلْتُ بَيْنَ كَذا وَكَذا فَاعْتَدَلا» أَيِ اسْتَوَيا.
وفي الاصْطلاحِ العَمَلِيِّ: هي «تعديلُ القوى النّفسانيّةِ وتقويمُ أفعالِها، بحيث لا يَغْلِبُ بعضُها على بعض، ثمّ تعديلُ ما خرجَ من ذاته من العلامات (المعاملات) والكرامات اقتناءً (اقتداءً) للفضيلة لا لغرضٍ آخَرَ».
بيانُ ذلك، أنّ للنّفس النّاطقة الإنسانيّة:
1- قوّةً عاقلةً، هي مبدأ الفكر، والتّمييز، والشّوق إلى النّظر في الحقائق.
2- وقوّةً غَضبيّةً، هي مبدأ الغضبِ، والجُرأة لدفع المَضارّ، والإقدام على الأهوال، والشّوق إلى التّسلُّط على الرّجال.
3- وقوّةً شَهَويةً، هي مبدأ طلب الشّهوة للمنافِعِ من المآكِلِ والمشاربِ، وباقي المَلاذّ البدنيّةِ واللَّذّاتِ الحسّيةِ.
وهذه القُوى الثّلاث متباينةٌ جدّاً، فمتى غلبَتْ إحداها انْقَهَرتِ الباقيتانِ، وربما أبْطَلَ بعضُها فِعْلَ البعض.
والفضيلةُ للإنسانِ تَحْصُلُ بتعديلِ هذه القُوَى:
1- فالعاقِلَةُ: تَحْصُلُ مِن تعديلها فضيلةُ العِلْمِ والحِكْمَةِ.
2- والغَضَبِيَّةُ: تَحْصُلُ من تعديلها فضيلةُ الحِلْمِ والشّجاعَةِ.
3- والشَّهَوِيَّةُ: تَحْصُلُ من تعديلها فضيلةُ العِفَّةِ.


* فالحكمةُ، حينئذٍ، مَلَكةٌ تَحْصُلُ للنّفسِ عند اعتدالِ حَركتِها تحتَ سُلطانِ العقل، بها يكونُ شوقُها إلى المعارفِ الصّحيحة، تَصْدُرُ عنها الأفعالُ المُتوسّطةُ بين أفعال الجَرْبزَةِ [أي الدّهاء]، التي هي استعمالُ الفِكْرِ في ما لا يجب، وهي طرفُ الإفراط، و[بين] الغَباوَةِ، التي هي تعطيلُ قوّةِ الفِكْرِ بالاختيارِ لا بالخِلقة، وهي طرفُ التّفريط.


* والشّجاعَة، التي هي فَضيلةُ القُوّةِ السَّبُعيةِ الغضبيّةِ، مَلَكةٌ تَحْصُلُ عند اعتدالِ هذه القُوَّةِ تحتَ تَصرُّفِ العقل، بها تَصْدُرُ الأفعالُ المتوسِّطَةُ بينَ أفعالِ التّهوّرِ، الذي هو الإقدامُ على ما لا ينبغي الإقدامُ عليه لحصولِ أمارة [أي علامة] الهلاكِ أو غير ذلك، وهو طرف الإفراطِ لهذه القُوَّة، و[بين] الجُبْنِ الذي هو الخَوْفُ ممّا لا ينبغي الخَوْفُ منه، وهو طَرَفُ التّفريط.


* والعِفَّةُ، مَلَكَةٌ تَصْدُرُ عن اعتدالِ حركةِ القُوَّةِ الشَّهَويّةِ تحت تصرّف العقل، بها تكون الأفعالُ المُتَوَسِّطَةُ بين أفعال الشّرَهِ، وهو الانهماكُ في اللَّذّاتِ والخروجُ فيها إلى ما لا يَنبغي، وهو طرفُ الإفراط، و[بين] الخُمُودِ الذي هو سكونُ النّفس عن اللَّذّةِ الجميلة التي يحْتاجُ إليها لمصالحِ البَدَنِ، ممّا رَخّصَتْ فيه الشّريعةُ.
وإذا حَصَلَتْ هذه الفضائلُ الثّلاثُ، وتَسالَمَتْ باعتدال القُوى الثّلاثِ، حَدَثَتْ منها مَلَكَةٌ رابِعةٌ هي تمامُ الفضائلِ الخُلُقيّةِ، وهي المعبّر عنها بـ «العدالة». فهي إذاً: «مَلَكَةٌ نَفْسانيّةٌ تَصْدُرُ عنها المساواةُ في الأُمور الواقعةِ من صاحبها».
وتحتَ كلّ واحدة من هذه الفضائلِ فضائلُ أُخرى، وكلّها داخلةٌ تحتَ العدالة كما قُرّرَ في محلِّه. فهي دائرةُ الكمال وجُمّاعُ أمرِ الفضائل، و«بها قامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ» كما ورد في الخبر.
وأما مفهومُها شَرْعاً، الذي هو المقصودُ بالذّات، فالمشهور بين الفُقهاء في تعريفها: «أنّها مَلَكَةٌ نفسانيّةٌ تَبْعَثُ على مُلازَمَة التَّقوى والمُروءَة».

واحْتَرَزوا بالملَكةِ عن الحال المنتقلّة بسرعةٍ، كحُمْرة الخَجِلِ وصُفْرة الوَجِل، بمعنى أنّ الاتّصافَ بالوصف المذكور لا بدّ أنْ يصيرَ مِن الملَكاتِ الرّاسخةِ، بحيث يَعْسُرُ زوالُها، وتَصِير كالطّبيعة المستقِرّة غالباً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة