من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

دولة بني العبّاس في صحيفة «محمّد ابن الحنفيّة»


السيد جعفر مرتضى ..

نقل ابنُ أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافيّ، أنّه قد صحّت الرّواية أنّه: لمّا مات عليٌّ أمير المؤمنين عليه السّلام، طلب محمّد بن الحنفيّة من أخوَيه: الحسن، والحسن ميراثَه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطْلعاه على غيرها لهلَك، وكان في هذه الصّحيفة ذِكرٌ لدولة بني العبّاس. فصرّح ابن الحنفيّة لعبد الله بن العبّاس بالأمر، وفصّله له.
في هذا السّياق كتب سماحة العلّامة المحقّق السّيّد جعفر مرتضى، في كتابه (الحياة السّياسيّة للإمام الرّضا عليه السّلام)، واقتطفنا منه هذه المقالة باختصار وتصرّف، ومنه إدخالُ بعض الهوامش في المتن.
الظّاهر أنّ صحيفة ابن الحنفيّة انتقلتْ منه لولده أبي هاشم، وعن طريقِه وصلت إلى بني العبّاس. ويقال: إنّها قد ضاعت منهم أثناء حربهم مع مروان بن محمّد الجعديّ، آخر خلفاء الأمويّين. وقد ذُكرت هذه الصّحيفة في كلام بني العبّاس، وخلفائهم كثيراً "..".


متى بدأ العبّاسيّون دعوتهم، وكيف؟
 الذين بدأوا بالدّعوة أوّلاً هم العَلَويّون، وبالتّحديد من قِبل أبي هاشم، عبد الله بن محمّد الحنفيّة، وهو الذي نظّم الدّعاة، ورتّبَهم، وقد انضمّ تحت لوائه: محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثّلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعَهم على أمر دُعاتِه.
وقد قرأ محمّد بن عليّ، ومعاوية بن عبد الله تلك الصّحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كلٌّ منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.
ولهذا نلاحظ: أنّ كُلّاً من محمّد بن عليّ، ومعاوية بن عبد الله، قد ادّعى الوصاية من أبي هاشم، ما يدلّ دلالة واضحة على أنّه لم يخصّص أيّاً منهما بالوصيّة، وإنّما عرّفهما دعاتَه فقط.
".." وبعد موت معاوية بن عبد الله (بن جعفر بن أبي طالب)، قام ابنه عبد الله يدّعي الوصاية من أبيه - من أبي هاشم - وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سرّاً حتى قُتل. وأمّا محمّد بن عليّ بن العبّاس فقد كان بمنتهى الحنكة والدّهاء، وقد تعرّف - كما تقدّم - من أبي هاشم على الدّعاة، واستطاع بما لديه من قوّة الشّخصيّة، وحُسن الدّهاء أن يسيطر عليهم، ويستقلّ بهم، ويُبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمّد بن عليّ يعمل بمنتهى الحذر والسّريّة. وقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها.


لا بدّ من ربط الثّورة بأهل البيت
كان لا بدّ للعبّاسيّين من ربط الثّورة والدّعوة بأهل البيت عليهم السّلام، حيث إنّهم كانوا بحاجة إلى أن لا تقابَل دعوتهم بالاستغراب والاستهجان، حيث إنّهم لم يكونوا معروفين في أقطار الدّولة الإسلاميّة المُترامية الأطراف، ولا كان يعرف أحدٌ لهم حقّاً في الدّعوة لأنفسهم، كما هو الحال بالنّسبة إلى العلويّين، ما يجعل الدّعوة لهم مع وجود العلويّين مستغربة ومستهجنة.
وبالفعل لقد شيّد الخراسانيّون، الذين كانوا يحبّون أهل البيت، عليهم السّلام، أركانَ دولة بني العبّاس، وقامت خلافتُهم على أكتافهم، واستقامت لهم الأمور بفضل سواعدهم، وأسيافهم.


تخوُّف العبّاسيّين من العلويّين
وقد كان الخلفاء من بني العبّاس يدركون جيّداً مقدار نفوذ العلويّين، ويتخوّفون منه، منذ أيّامهم الأولى في السّلطة. وممّا يدلّ على ذلك:
أنّ السّفّاح، من أوّل عهده كان قد وضع الجواسيس على بَني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: «قُم بإنزالهم ولا تَأْلُ في ألطافهم، وكلّما خلوتَ معهم، فأظهر الميل إليهم، والتّحاملَ علينا، وعلى ناحيتنا، وأنّهم أحقُّ بالأمر منّا، وأحصِ لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومَقدمهم..».
وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعدّدت أساليبها بعد عهد السّفّاح، يظهر ذلك لكلّ من راجع كُتب التّاريخ "..".
وحسبنا هنا بعد كلّ الذي قدّمناه، أن نذكر فقراتٍ من رسالة أبي بكر الخوارزميّ، التي أرسلها إلى أهل نيشابور.
بعد أن ذكر كثيراً من الطّالبيّين، الذين قتلهم الأمويّون، والعبّاسيّون - ومنهم الرّضا عليه السّلام الذي تسمّم بيد المأمون - يقول أبو بكر الخوارزمي:

«فلمّا انتهكوا [أي الأُمويّون] ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثمَ العظيم، غضبَ اللهُ عليهم، وانتزع المُلكَ منهم، فبعثَ عليهم (أبا مجرم) لا أبا مسلم، فنظر، لا نظرَ اللهُ إليه، إلى صلابة العلويّة، وإلى لِين العبّاسيّة، فترك تُقاه، واتّبعَ هواه، وباع آخرتَه بدنياه، بقَتلِه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلّط طواغيتَ خراسان، وأكرادَ إصفهان. وخوارجَ سجستان على آل أبي طالب، يقتلُهم تحت كلّ حجرٍ ومدَر، ويطلبُهم في كلّ سهلٍ وجَبل، حتّى سلّطَ عليه أحبَّ النّاس إليه، فقتلَه كما قتل النّاسَ في طاعتِه، وأخذه بما أخذَ النّاس في بيعتِه، ولم ينفعه: أن أسخطَ اللهَ برضاه، وأنْ ركبَ ما لا يهواه، وخَلَتْ من الدّوانيقيّ الدّنيا، فخبطَ فيها عَسْفاً، وتقضّى فيها جوراً وحيفاً. وقد امتلأت سجونُه بأهل بيت الرّسالة، ومعدنِ الطّيب والطّهارة، قد تتبّع غائبَهم، وتلَقّطَ حاضرهم، حتّى قتل عبد الله بن محمّد بن عبد الله الحسنيّ بالسّند، على يد عمر بن هشام الثّعلبيّ، فما ظنُّك بمَن قرب متناوله عليه، وَلانَ مَسُّهُ على يديه.
وهذا قليلٌ في جنب ما قتلَه هارون منهم، وفعلَه موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجّه على الحسين بن عليّ بفخٍّ من موسى، وما اتّفق على عليّ بن الأفطس الحسينيّ من هارون، وما جرى على أحمد بن عليّ الزّيدي، وعلى القاسم بن عليّ الحسينيّ من حَبْسِه، وعلى غسّان بن حاضر الخزاعيّ، حين أُخذ من قبله، والجملة أنّ هارون مات وقد حصدَ شجرةَ النّبوّة، واقتلعَ غرسَ الإمامة. وأنتم، أصلحكم الله، أعظمُ نصيباً في الدّين من الأعمش، فقد شتَموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن عليّ بن يقطين، فقد اتّهموه».
إلى أن يقول: بعد كلامٍ له عن بني أميّة: «.. وقُل في بني العبّاس، فإنّك ستجدُ بحمد الله مقالاً، وجُلْ في عجائبهم، فإنّك ترى ما شئتَ مجالاً.
يُجْبى فَيْؤُهُم، فيُفرَّق على الدّيلميّ، والتّركيّ، ويحتمَل إلى المغربيّ، والفرغانيّ. ويموت إمامٌ من أئمّة الهدى، وسيّدٌ من سادات بيت المصطفى، فلا تُتبَع جنازتُه، ولا تُجصَّص مقبرته، ويموت ".." لهم، أو لاعبٌ أو مسخرةٌ، أو ضاربٌ، فتحضر جنازتَه العدولُ والقضاة، ويعمرُ مسجدَ التّعزية عنه القوّادُ والولاة..
ويَسلمُ فيهم مَن يعرفونه دهريّاً، أو سوفسطائيّاً، ولا يتعرّضون لمَن يدرسُ كتاباً فلسفيّاً ومانويّاً، ويقتلون مَن عرفوه شيعيّاً، ويسفكون دم من سمّى ابنه عليّاً..
ولو لم يقتَل من شيعة أهل البيت غير المعلّى بن خنيس، قتيلِ داوود بن علي، ولو لم يحبَس فيهم غير أبي تراب المروزيّ، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، وثائرةً لا تُطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحاً لا يلتحم.
وكفاهم أنّ شعراء قريش قالوا في الجاهليّة أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنين عليه السّلام، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحُملت أشعارهم. ودُوّنت أخبارهم، ورواها الرّواة، مثل: الواقديّ، ووهب بن منبه التّميميّ، ومثل الكلبيّ، والشّرقيّ ابن القطاميّ، والهيثم بن عديّ، ودأب بن الكناني، وأنّ بعض شعراء الشّيعة يتكلّم في ذِكر مناقب الوصيّ، بل ذِكر معجزاتِ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيُقطَع لسانُه، ويمزَّق ديوانُه، كما فُعل بعبد الله بن عمّار البرقيّ، وكما أُريدَ بالكميت بن زيد الأسديّ، وكما نُبش قبر منصور بن الزّبرقان النّمري، وكما دمّر على دعبل بن عليّ الخزاعيّ، مع رِفقتِهم من مروان بن أبي حفصة اليماميّ، ومن عليّ بن الجهم الشّامي. ليس إلّا لغلوّهما في النّصب، واستيجابهما مقتَ الرّبّ، حتّى إنّ هارون بن الخيزران، وجعفراً المتوكّل على الشّيطان، لا على الرّحمن، كانا لا يُعطيان مالاً، ولا يَبذلان نوالاً، إلّا لمَن شتم آل أبي طالب، ونصرَ مذهبَ النّواصب، مثل: عبد الله بن مصعب الزّبيريّ، ووهب بن وهب البختريّ، ومن الشّعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الأمويّ، ومن الأدباء مثل: عبد الملك بن قريب الأصمعيّ. فأمّا في أيّام جعفر فمثل: بكّار بن عبد الله الزّبيريّ، وأبي السّمط ابن أبي الجون الأمويّ، وابن أبي الشّوارب العبشميّ».


وبعد كلامٍ له عن بني أميّة أيضاً، قال:
«وماذا أقول في قومٍ حملوا الوحوش على النّساء المسلمات، وأجروا لعبادة [هكذا] وذويه الجرايات، وحرثوا تربةَ الحسين عليه السّلام بالفدّان، ونفوا زوّارَه إلى البلدان، وما أَصِفُ من قومٍ هم: نُطَفُ السّكارى في أرحام القِيان؟ وماذا يُقال في أهل بيتٍ منهم نبع البغاء،وفيهم راح التّخنيث وَغَدا، وبهم عرف اللّواط؟! كان إبراهيم بن المهديّ مغنّياً، وكان المتوكّل مؤنّثاً موضعاً، وكان المعتزّ مخنّثاً، وكان ابن زبيدة معتوهاً مفرّكاً، وقتلَ المأمون أخاه، وقتلَ المنتصر أباه، وسمّ موسى بن المهدي أمَّه، وسمّ المعتضدُ عمَّه. ولقد كان في بني أميّة مخازي تذكَر، ومعائب تؤثَر».
وبعد أن عدّد بعض مخازي بني أميّة ومعائبَهم، قال:

«.. وهذه المثالب مع عظمها وكَثرتها، ومع قُبحها وشنعتها، صغيرةٌ وقليلةٌ في جَنب مثالبِ بني العبّاس، الذين بنوا مدينة الجبّارين، وفرّقوا في الملاهي والمعاصي أموالَ المسلمين.. إلى آخر ما قال..».
.. كان جبريلُ خادماً لأبيه
ذكر ابن طولون في كتابه (الأئمّة الاثني عشر: ص 98 - 99) أنّ أبا نوّاس عُوتب على تَرْك مدحِ الإمام الرّضا عليه السّلام، فقال له بعضُ أصحابه: ما رأيتُ أوقحَ منك، ما تركتَ خمراً ولا طوداً ولا مغنًى إلّا قلتَ فيه شيئاً، وهذا عليّ بن موسى الرّضا في عصرِك لم تَقُلْ فيه شيئاً، فقال: واللهِ، ما تركتُ ذلك إلّا إعظاماً له، وليس يقدرُ مثلي أن يقولَ في مثلِه، ثمّ أنشدَ بعد ساعةٍ هذه الأبيات:
قِيْلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدُ النّاسِ طُرّاً     في فُنونٍ مِنَ المَقالِ النَّبيهِ
لَكَ مِنْ جَوْهَرِ الكَلامِ نِظامٌ         يَثْمُرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ
فَلِماذا تَرَكْتَ مَدْحَ ابْنِ مُوسى     وَالخصالِ الّتي تَجَمَّعْنَ فيهِ
قُلْتُ: لا أَهْتَدي لِمَدْحِ إِمامٍ        كانَ جِبْريلُ خادِماً لِأَبيهِ

(الشّيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الرّضا عليه السّلام)
ــــــــــــــــــــــ
مجلة شعائر السنة الخامسة، العـدد الرابع والخمسون

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة