قرآنيات

القرآن والعلوم


السيد محمد حسين الطباطبائي ..

تعظيم القرآن مكانة العلم والحث على طلبه
عظم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيمًا لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية الأخرى، ويكفي أنه نعت العصر العربي قبل الإسلام ، بـ « الجاهلية »، وفيه مئات من الآيات يذكر فيها العلم والمعرفة وفي أكثرها ذكرت جلالة العلم ورفيع منزلته.
قال تعالى ممتنًا على الإنسان: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ 1.
وقال:﴿ ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ... ﴾ 2.
وقال:﴿ ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ... ﴾ 3.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تنادي بعظمة العلم. وفي أحاديث الرسول وأهل بيته عليهم ‌السلام التالية للقرآن الكريم شواهد لا تحصر في الحث على طلب العلم وأهميته وعظيم شأنه.


العلوم التي يدعو القرآن إلى تعلمها
يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته (لم ننقلها هنا لوفرتها) إلى التفكر في الآيات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في أوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه.
ويدعو إلى التفكر في خلق الأرض والبحار والجبال والأودية وما في بطون الأرض من العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية.
ويدعو إلى التفكر في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها وما يظهر منها في الحياة.
ويدعو إلى التفكر في خلق الإنسان نفسه والأسرار المودعة فيه، بل يدعو إلى التفكر في النفس وأسرارها الباطنية وارتباطها بالملكوت الأعلى. كما يدعو إلى السير في أقطار الأرض والتفكر في آثار الماضين والفحص في أحوال الشعوب والجوامع البشرية وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبر.
بهذا الشكل الخاص يدعو إلى تعلم العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والأدبية وسائر العلوم التي يمكن أن يصل إليها الفكر الإنساني، يحث على تعلمها لنفع الإنسانية وإسعاد القوافل البشرية.
نعم، يدعو القرآن إلى هذه العلوم شريطة أن تكون سبيلاً لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى.
وأما العلم الذي يشغل الإنسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل، قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ 4.
وقال:﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ... ﴾ 5.
القرآن الكريم بترغيبه إلى تعلم مختلف العلوم، يعلم دورة كاملة من المعارف الإلهية وكليات الأخلاق والفقه الإسلامي.


العلوم الخاصة بالقرآن
يتدارس المسلمون علومًا موضوعها القرآن الكريم نفسه. ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم إلى أوائل عصر النزول، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها وأصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة 6 .
وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم إلى فئتين: ما يبحث فيه عن الألفاظ، وما يبحث فيه عن المعاني.
العلوم الباحثة في الفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة وهي :
فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الأفراد والتركيب، كالإدغام والإبدال وأحكام الوقف والابتداء ونظائرها.
وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الأخرى وقراءات الصحابة وشواذ القراءات الأخرى.
وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف، وضبط أعداد جميع السور والآيات والكلمات والحروف.
وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيه من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به.

وأما العلوم التي تبحث في معاني القرآن فهي :
فن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.
وفن يبحث في آيات الأحكام، وهو في الحقيقة فرع من الأبحاث الفقهية.
وفن يبحث عن معاني القرآن، وهو المعروف بـ « التفسير ».
وقد ألف علماء الإسلام والمحققون في كل هاتيك العلوم كتبًا ورسائل كثيرة.


العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها
لا شك أن العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم، إنما يرجع تاريخ نشأتها إلى عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.
لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الأول الهجري بصورة غير منظمة بسبب المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ والأخذ الشفوي، إلا مدونات قليلة جداً في الفقه والتفسير والحديث.
وفي أوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع 7 بدأ المسلمون بتدوين الحديث أولًا، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم وأوجدوا الأنظمة الخاصة للتأليف والتصنيف، فكانت نتيجة المساعي: فن الحديث، وعلم الرجال والدراية، وفن أصول الفقه، وعلم الحديث، وعلم الكلام، وغيرها.

وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية إلى العربية في بداية أمرها والتي بقيت على شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة، فإن البيئة أثرت فيها مادة وصورة، وتحولت من شكلها البدائي إلى شكل يغايره كل المغايرة. وأحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة بين المسلمين اليوم، فإنك لا ترى مسألة فلسفية في المعارف الإلهية إلا ويمكن أن تجد متنها وبراهينها وأدلتها المقامة لها في طيات الآيات القرآنية والأحاديث المروية.
ويمكن إعادة هذا القول في العلوم الأدبية أيضًا، فإن أمثال الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من أنها تشمل اللغة العربية بصورة عامة، إلا أن الذي دفع الناس إلى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها إنما هو كلام الله المجيد الذي له الحلاوة التامة وحسن الأسلوب في التعبير والإعجاز في الفصاحة والبلاغة، فانجذبت إليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والأسرار الكامنة تحت جمله وألفاظه، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها.
كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي، وكان يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول: الشعر ديوان العرب.
بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره، وبلغت الحالة إلى أن العالم الشيعي خليل بن أحمد الفراهيدي البصري 8 ألف في اللغة كتاب العين ووضع علم العروض لمعرفة الأوزان الشعرية. وهكذا وضع العلماء الآخرون في هذين العلمين أيضًا المؤلفات القيمة.

وعلم التاريخ أيضًا من مشتقات علم الحديث، ففي أوله كان مجموعة من قصص الأنبياء والأمم، وبدأ من سيرة الرسول صلى‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم، ثم أضيف إليه تاريخ صدر الإسلام، وفيما بعد أصبح بصورة تاريخ عام للعالم، وكتب المؤرخون أمثال الطبري والمسعودي واليعقوبي والواقدي، مؤلفاتهم التاريخية.
ويمكن القول بصراحة بأن القرآن هو الدافع الأول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية من طبيعية ورياضية بشكل النقل والترجمة من اللغات الأخرى في البداية، ثم استقلوا في الاشتغال بها والابتكار في موضوعاتها والتفريغ في مسائلها والتحقيق في مباحثها الهامة.
ترجمت العلوم بتشجيع من الخلافة في ذلك اليوم من اليونانية والسريانية والهندية إلى العربية، ثم وضعت تلك العلوم المترجمة في متناول أيدي المسلمين بمختلف جالياتهم، وأخذت دائرة التحقيق العلمي تتسع حتى أصبحت بشكل عميق ودقيق جداً.
إن مدنية الإسلام التي شملت قطعة عظيمة من المعمورة بعد رحلة الرسول، وكان لها الحكم المطلق، والتي امتدت حتى هذا اليوم الذي يعيش فيه أكثر من ستمائة مليون مسلم، هذه المدنية هي أثر واحد من آثار القرآن الكريم (مع العلم أننا نحن الشيعة نعارض دائماً سياسة الخلفاء والملوك حيث تساهلوا في نشر التعاليم الدينية وتطبيق قوانين الإسلام تطبيقًا كاملًا، مع هذا نعتقد أن ضوء الإسلام المنتشر بهذا المقدار في أرجاء المعمورة إنما هو إشراقة من إشراقات القرآن العظيم ).
من الواضح البديهي أن هذا التحول العظيم الذي هو حلقة مهمة من حلقات حوادث العالم، سيؤثر تأثيراً مباشراً في الحلقات المستقبلة. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن إحدى علل التحول العلمي الهائل الذي نشاهده اليوم هي من تأثير القرآن الكريم.

إن تجلية هذا الموضوع بشكل أوضح وأعمق يحتاج إلى دراسة واسعة، ولكن طريقة الاختصار التي التزمنا بها في هذا الكتاب لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذه الدراسة .. فإلى الكتب المعنية بذلك ... 9 .
ــــــــــــــ
1. القران الكريم: سورة العلق (96)، الآية: 5، الصفحة: 597.
2. القران الكريم: سورة المجادلة (58)، الآية: 11، الصفحة: 543.
3. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 9، الصفحة: 459.
4. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 7، الصفحة: 405.
5. القران الكريم: سورة الجاثية (45)، الآية: 23، الصفحة: 501.
6. وضعنا فهرساً عاماً باسم « معجم المؤلفات القرآنية » للكتب والرسائل التي دونت حول القرآن وعلومه على ترتيب العلوم ، يعرف من خلاله الجهد الكبير المبذول حول هذا الكتاب السماوي الذي عني به من شتى الجهات عناية فائقة لم تنلها سائر كتب الاديان ، المترجم.
7. ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي ٩٩ ـ ١٠١.
8. الخليل بن احمد ، ابو عبد الرحمن الفراهيدي ، من ائمة اللغة والادب ، وهو واضع علم العروض واستاذ سيبويه النحوي ، وكتابه « العين » مشهور في اللغة ، مات بالبصرة سنة ١٧٠ ( الاعلام للزركلي ).
9. القرآن في الاسلام، العلامة السيد محمدحسين الطباطبائي، تعريب: السيد أحمد الحسيني، الفصل الرابع ، ص 137 - 1

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة