قرآنيات

القرآن كتاب للهداية والتربية


الإمام الخميني "قدس سره"

اعلم أن هذا الكتاب الشريف -كما صرّح هو به- كتاب الهداية، وهادي سلوك الإنسانية ومربّي النفوس وشافي الأمراض القلبية، ومنير طريق السير إلى الله.
وبالجملة، فإن الله تبارك وتعالى -لسعة رحمته على عباده- أنزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه، وتنزل به على حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم الظلماني، وسجن الطبيعة، وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لاستخلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وإيصالهم من حضيض النقص والضعف والحيوانية على أوج الكمال والقوة والإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين، بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله ومطالبهم، فمن هذه الجهة هذا الكتاب هو كتاب الدعوة إلى الحق والسعادة، وبيان كيفية الوصول إلى هذا المقام، ومحتوياته إجمالاً هي ما له دخل في هذا السير والسلوك الإلهي، أو يعين السالك والمسافر إلى الله، وعلى نحو كلي أحد مقاصده المهمة: الدعوة إلى معرفة الله، وبيان المعارف الإلهية من الشؤون الذاتية والأسمائية والصفاتية والأفعالية. والأكثر في هذا المقصود هو توحيد الذات والأسماء والأفعال، التي ذكر بعضها بالصراحة، وبعضها بالإشارة المستقصية.

 وليعلم أن المعارف من معرفة الذات إلى معرفة الأفعال قد ذكرت في هذا الكتاب الجامع الإلهي على نحو تدركه كل طبقة على قدر استعدادها، كما أن علماء الظاهر والمحدثين والفقهاء رضوان الله عليهم يبيّنون ويفسرون آيات التوحيد الشريفة، وخصوصاً توحيد الأفعال على نحو يخالف ويباين ما يفسرّها أهل المعرفة وعلماء الباطن.
 والكاتب يرى كلا التفسيرين صحيحاً في محله، لأن القرآن هو شفاء الأمراض الباطنية، ويعالج كل مريض على نحو خاص، كما أن كريمة هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وكريمة الله نور السماوات والأرض، وكريمة هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وكريمة وهو معكم، وكريمة أينما تولّوا فثم وجه الله، إلى غير ذلك في توحيد الذات والآيات الكريمة في آخر سورة الحشر وغيرها في توحيد الصفات. وكريمة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وكريمة الحمد لله رب العالمين، وكريمة يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض في توحيد الأفعال التي تدل بعضها بوجه دقيق وبعضها بوجه أدق عرفاني، هي شفاء للأمراض عند كل طبقة من طبقات علماء الظاهر والباطن على نحو معين. ففي نفس الوقت الذي تكون الآيات الشريفة مثل آيات أول الحديد والسورة المباركة التوحيد قد نزلت للمتعمقين في آخر الزمان حسب الحديث الشريف في الكافي فإن لأهل الظاهر منها نصيب كافٍ، وهذا من معجزات هذا الكتاب الشريف ومن جامعيته.

 ومن مقاصده الأخرى ومطالبه: الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة، وتحصيل السعادة. وبالجملة، كيفية السير والسلوك إلى الله، وهذا المطلب الشريف منقسم إلى شعبتين مهمتين.
 إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها التقوى عن غير الحق والأعراض المطلق عما سوى الله.
 وثانيهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرجة في الإقبال إلى الحق، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدسة، وهذا من المقاصد المهمة لهذا الكتاب الشريف، وأكثر مطالبه ترجع إلى هذا المقصد إما بلا واسطة أو مع الواسطة.
 ومن مقاصد هذه الصحيفة الإلهية: قصص الأنبياء والأولياء والحكماء، وكيفية تربية الحق إياهم، وتربيتهم الخلق. فإن في تلك القصص فوائد لا تحصى وتعليمات كثيرة. ومن المعارف الإلهية والتعليمات وأنواع التربية الربوبية المذكورة والمرموزة فيها ما يحيّر العقل.
فيا سبحان الله، وله الحمد والمنة، ففي قصة خلق آدم عليه السلام، والأمر بسجود الملائكة، وتعليمه الأسماء، وقضايا إبليس وآدم التي كرر ذكرها في كتاب الله من التعليم والتربية والمعارف والمعالم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ما يحيّر الإنسان. ولأجل هذه النكتة كررت القصص القرآنية كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء. فليس هذا الكتاب كتاب قصة وتاريخ؛ بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية، وتأخذ منها الموعظة.

وبعبارة أخرى إن من يريد أن يربّي ويعلم وينذر ويبشّر فلابدّ له أن يزرق مقصده بالعبارات المختلفة والبيانات المتشتتة، فتارة في ضمن قصة وحكاية وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، وحيناً بصراحة اللهجة، وحيناً بالكناية والأمثال والرموز حتى يتمكن كل من النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة الاستفادة منها، وحيث أن هذا الكتاب الشريف لأجل سعادة جميع الطبقات وسلسلة البشر قاطبة، ويختلف هذا النوع الإنساني في حالات القلوب والعادات والأخلاق والأزمنة والأمكنة، ولا يمكن أن تكون دعوته على نحو واحد، فربّ نفوس لا تكون حاضرة لأخذ التعاليم بصراحة اللهجة وإلقاء أصل المطلب بنحو عادي، ولا تتأثر بهذا النحو، فلابد أن تكون دعوة هؤلاء وفق كيفية تفكيرهم، فيفهم إيّاهم المقصد، وربّ نفوس لا شغل لها بالقصص والحكايات والتواريخ، وإنما علاقتها بلب المطالب، ولباب المقاصد، فلا يوزن هؤلاء مع الطائفة الأولى بميزان واحد، ورب قلوب تتناسب مع التخويف والإنذار، وقلوب لها الألفة مع الوعد والتبشير. فلهذه الجهة دعا الناس هذا الكتاب الشريف بالأقسام المختلفة، والفنون المتعددة، والطرق المتشتتة، والتكرار لمثل هذا الكتاب لازم وحتمي، والدعوة والموعظة من دون تكرار وتفنّن خارجة عن حد البلاغة، وما يتوقع منها -وهو التأثير في النفوس- لا يحصل من دون تكرار، ومع هذا فإن ذكر القضايا في هذا الكتاب الشريف كان على نحو لا يوجب تكرارها الكسالة في الإنسان، بل هو في كل دفعة يكرر أصل المطلب يذكر فيها خصوصيات ولواحق ليست في غيرها، بل في كل مرة يركز النظر إلى نكتة مهمة عرفانية أو أخلاقية ويطيف المطلب حولها.......

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة