مقالات

نعمةُ الجوع


الملكيّ التّبريزيّ

الجوعُ فيه فوائدُ للسّالك في تكميلِ نفسه ومعرفته بربِّه، لا تُحصَى، وقد وَرَدت في فضائله أشياءُ عظيمةٌ في الأخبار لا بأس بالإشارة إليها أوّلاً ثمّ الإشارة إلى حكمته.
 رُوي عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «جاهِدوا أنفسَكُم بالجوعِ والعطشِ، فإنَّ الأجرَ في ذلك كَأجرِ المُجاهد في سبيلِ اللهِ، وإنّه ليسَ مِن عملٍ أحبّ إلى الله من جوعٍ وعطشٍ».
وقال صلّى الله عليه وآله لأسامة: «إنِ استَطعتَ أنْ يأتيَكَ مَلَكُ الموت وبطنُك جائعٌ، وكَبدُكَ ظمآن فافعلْ، فإنّك تُدركُ بذلك أشرفَ المنازل، وتَحلّ مع النّبيّين، وتَفرحُ بقدومِ رُوحِك الملائكةُ، ويُصلّي عليك الجبّار».
 وقال صلّى الله عليه وآله: «أجِيعوا أكبادَكُم، وأَعرُوا أجسادَكم، لعلّ قلوبَكم تَرى اللهَ عزَّ وجلَّ».
 وفي حديث المعراج: «قال: هل تعلمُ يا أحمد ما ميراثُ الصَّوم؟ قال: لا. قال: ميراثُ الصَّوم قلّةُ الأكل، وقلّةُ الكلام».
 ثمّ قال في ميراث الصَّمت «ويُورثُ الصّمتُ الحكمةَ، وتورثُ الحكمةُ المعرفة، وتورثُ المعرفةُ اليقين، فإذا استَيْقَنَ العبدُ لا يُبالي كيف أصبح، بعُسرٍ أم بِيُسرٍ، فهذا مقام الرّاضين. فمَن عملَ بِرِضايَ أُلزِمُه ثلاثَ خصال: شكراً لا يُخالِطُه الجهل، وذِكراً لا يُخالطه النِّسيان، ومحبّةً لا يؤثِر على محبّتي حبَّ المخلوقين، فإذا أحبَّني أحببتُه وحبَّبْتُه إلى خَلْقي، وأفتحُ عينَ قلبِه إلى جلالي وعَظَمتي فلا أُخفي عنه علمَ خاصّةِ خَلْقي، أُناجيه في ظُلَمِ اللّيل ونورِ النّهار، حتّى يَنقطعَ حديثُه مع المخلوقين ومجالستُه معهم، وأُسمِعه كلامي وكلامَ ملائكتي، وأُعرّفه سرّي الّذي سترتُهُ من خَلْقي..».
إلى أن قال: «ولأسْتَغْرِقَنّ عقلَه بمعرفتي، ولأقُومنَّ له مقامَ عقلِه، ثمّ لأُهَوِّننّ عليه الموتَ وسكراتِه، وحرارتَه وفَزَعَه، حتّى يُساق إلى الجنّة سَوْقاً، فإذا نَزلَ به مَلكُ الموتِ يقول: مرحباً بكَ وطُوبى لكَ ثمّ طُوبى لكَ، إنَّ اللهَ إليك لَمشتاقٌ..».
إلى أنْ قال: «يقول [الله تعالى]: هذه جنَّتي فتَبَحْبَح فيها، وهذا جِواري فاسكُنْهُ. فتقول الرُّوح [روحُ العبد المستيقن]: إلهي عرَّفتَني نفسَك فاستَغنيْتُ بها عن جميعِ خَلْقِك. وعزّتِكَ وجلالِك، لو كان رِضاكَ في أن أُقطَّع إرْباً إرْباً أو أُقتلَ سبعين قتلةً بأشدَّ ما يُقتلُ النَّاس، لَكَان رضاكَ أحبَّ إليّ..».

إلى أن قال: «فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وعزّتي وجلالي، لا أحجبُ بيني وبينَك في وقتٍ من الأوقات حتّى تدخلَ عليّ أيّ وقت شئْتَ، كذلك أفعلُ بأحبّائي..».
أقول: في هذه الأخبار إشارةٌ وتصريحٌ بحكمةِ الجُوع وفضيلتِه، وإن شِئْتَ أَبْسَطَ من ذلك فانظُر إلى ما ذَكَرهُ علماءُ الأخلاق أخذاً من أخبار الباب من خواصّه وفوائده، وقد ذَكروا له فوائد عظيمة:
منها: صفاءُ القلب، لأنَّ الشَّبعَ يُكثرُ البُخارَ في الدِّماغ، فيعرضُ له شبهُ السُّكر، فيَثقل القلبُ بِسَببِه عن الجَرَيان في الأفكار، وعن سرعةِ الانتقال، فيَعمى القلبُ. والجوع بخلاف ذلك، فيَصير سبباً لصفاءِ القلبِ ورِقّته، ويُهيّئ القلبَ لإدمانِ الفِكْرِ المُوصِل إلى المعرفة، وله نورٌ محسوسٌ، ورُوي عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «مَن أجاعَ بطنَهُ عَظُمَت فكرتُه وفطنَ قلبُه».
ومنها: الانكسار والذُّلّ، وزوال الأَشَرِ والبَطَرِ، والفرحِ الذي هو مَبدأُ الطُّغيان، فإذا ذلَّتِ النّفسُ يَسكُنُ لِرَبِّه ويَخشَع.
ومنها: كَسْرُ سَورة الشَّهوات والقوى الّتي تُورِثُ المعاصي وتُوقِعُ في الكبائر المُهلِكات، لأنّ أغلبَ الكبائر تَنشأُ من شهوة الكلام، وشهوة الفَرْج، وكَسرُ الشَّهوتَين سببٌ للاعتصام من المُهلِكات.
ومنها: دفعُ النَّوم المُضيِّع للعمر، الّذي هو رأسُ مال الإنسان لِتجارةِ الآخرة، وهو سببٌ لِدَوام السَّهر الذي هو بذْرُ كلّ خيرٍ، ومُعينٌ للتَّهجّدِ الباعثِ لبلوغِ المقام المحمود.
ومنها: تَيَسُّر جميع العبادات من وجوه، أهوَنُها قلّة الاحتياج إلى التّخلّي وتحصيل الطّعام، وقلّة الابتلاء بأمراضٍ شتّى، فإنّ المَعِدَة بيتُ الدَّاء، والحِمْيَة رأسُ كلّ دواءٍ، وكلّ ذلك مُحْوِجٌ للإنسان لعروضِ الدُّنيا من مالِها وجاهها، اللّذَين فيهما هلاكُ مَن هَلَك.

ومنها: التّمكُّن من بذل المال والإطعام، والصِّلَة والبرّ والحجّ والزّيارة، وبالجملة العبادات الماليّة كلّها.
أقول: هذه فوائد لا تُحيط عقولُ البشرِ بتفصيلها، لا سيّما الفائدة الأولى، فإنّ الفِكْرَ في الأعمال بمنزلة النّتيجة، وغيرَه بمنزلةِ المقدّمات، فإنّه السَّيرُ نفسُه، وغيره مقدّماتٌ ومعدّاتٌ للسَّير، ولذا ورد فيه: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سبعين سنة».
وإذا تمهّد لك هذه المقدّمة يَنتج لك فوائدُ عظيمة:
منها: أنّك تَعلم بالعلمِ القطعيّ وجهَ اختيارِ اللهِ لِضيفِه الجوعَ، لأنّه لا نعمةَ أَنعم وأَسنى من نعمةِ المعرفة والقُربِ واللّقاء، والجوعُ من أسبابِها القريبة.

وتعلم أنّ الصَّومَ ليس تكليفاً بل تشريفٌ يوجبُ شكراً بِحَسَبِه، وترى أنّ المِنّة للهِ تعالى في إيجابِه، وتعرف مكانةَ نداءِ الله تعالى لك في كتابِه في آيةِ الصّوم، وتَلْتذّ من النّداء إذا علِمْتَ أنّه نداءٌ ودعوةٌ لك لِدارِ الوصول، وتَعلم أنّ الحكمةَ في تشريعِه قلّةَ الأكلِ وتَضعيفَ القوى، وتضنّ أن تأكل في اللّيل ما تَركتَه في النّهار، بل وأَزْيَد.
ومنها: أنّك إذا عرفْتَ شَرفَ ما أُريد منه [من الصّوم] لك، تَجتهد في تصحيحِه والإخلاص فيه، لِتَسْلَم لك فوائدُه.
ومنها: أنّك إذا عرفْتَ المُرادَ من جَعل الصَّوم وإيجابِه، تعرف بذلك ما يُكدِّره وما يُصفِّيه، وتعلم معنى ما وَرد فيه من أنَّ الصَّوم ليس عن الطّعام والشّراب فقط، فإذا صمْتَ فليَصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك، حتّى ذُكِر في بعضِها الجلدُ والشَّعرُ.
ومنها: أنّك تعرف أنّ النِّيّة بهذا العمل لا يليق أن يكون لِدفعِ العقابِ فقط، ولا يليق أن يكون لِجَلْبِ ثواب جنّة النّعيم، وإنْ حَصلا به، بل حقّ نيّة هذا العمل أنّه مقرِّبٌ من الله ومُوصِلٌ إلى قُربِه وجوارِه ورِضاه،
وإذا عرفْتَ ذلك، تَعرف بأيْسَرِ ما يُتفطّن أنّ كلّ ما يلحقُك من الأحوال والأفعال والأقوال المبعِّدة لك عن مراتب الحضور، فهو مُخالفٌ لِمُراد مولاكَ مِن تَشريفِكَ بهذه الدَّعوة والضِّيافة، ولا تَرضَ أنْ تكونَ في دارِ ضيافةِ هذا المَلِكِ الجليلِ المُنعمِ عليك بهذا التّشريف والتّقريب، العالِم بِسرائركَ وخَطَراتِ قلبك، غافلاً عنه وهو مراقبٌ لك، ومُعرِضاً عنه وهو مُقبلٌ عليك. وَلَعمري إنّ هذا في حُكمِ العقلِ من القبائح العظيمة الّتي لا يَرضى العاقلُ أن يعامِلَ صديقَه بها، ولكن من رِفْقِ الله تعالى وفضلِه أنّه لم يُحرِّم مثل هذه الغفلات، وسامحَ عبادَه وكلَّفهُم دون وسْعِهم هذا، ولكنّ الكرامَ من العبيد أيضاً لا يعامِلون سيِّدَهم وفق الواجبِ والحرام، بل يعاملونه بما يقتضيه حقُّ السّيادة والعبوديّة، ويَعدّون مَن اقتَصَر على ذلك [الواجب والحرام] من اللِّئام.

وبالجملة يَعملون في صومِهم بما وصَّى به الإمام الصّادق عليه السلام، وهي أمور، منها:
«..وكُونوا مُشرفينَ على الآخِرةِ مُنتظرينَ لأيَّامكم ".." وعليكُم السَّكينةُ والوَقارُ والخُشوعُ والخُضوعُ وذُلُّ العبدِ الخائفِ مِن مولاه، راجِينَ خائفينَ راغبينَ راهبينَ، قد طَهَّرتُم القلوبَ من العيوبِ، وتقدَّسَت سَرائرُكُم من الخبّ [الخداع]. ونظَّفْتَ الجسمَ من القاذورات، تبرَأُ إلى الله مِن عِداه، ووَاليْتَ اللهَ في صَوْمِك بالصَّمت من جميع الجهات مِمّا قد نهاكَ اللهُ عنه في السِّرِّ والعلانية، وخَشيتَ اللهَ حقَّ خَشيَتِه في السّرّ والعلانية، ووهبت نفسّك للهِ في أيّام صومِك، وفرَّغْتَ قلبَكَ لهُ ونَصَبت قلبَكَ له في ما أمَرَكَ ودعاكَ إليه. فإذا فَعَلْتَ ذلكَ كلّه، فأنتَ صائمٌ للهِ بِحقيقةِ صَوْمِه، صانعٌ لِما أَمرَك، وكلَّما نَقَصْتَ منها شيئاً ممَّا بيَّنْتُ لكَ، فقد نَقصَ مِن صَوْمِكَ بمقدارِ ذلك..».
أقول: فانظُر إلى ما في هذه الوَصايا من وظائف الصَّائم، ثمّ تأمَّل في آثاره واعلم أنّ مَن يَرى نفسَه مُشرفاً على الآخرة، يُخرج قلبَه من الدُّنيا، ولا يهتمّ إلّا بتهيئةِ زادٍ للآخرة. وهكذا إذا خَضَع قلبُه وكان مُنكسراً وذليلاً بَعُدَ عن الفرح بغير الله تعالى والمَيلِ إليه، ومَن بَذَلَ روحَه وبدَنَه لله وتبرّأَ من كلّ شيءٍ دون الله، يكون روحُه وقلبُه وبدنُه وكلُّه مُستغرِقاً في ذكرِ الله، ومحبّته، وعبادتِه تعالى ، ويكون صومُه صومَ المقرَّبين، رَزَقَنا اللهُ بحقّ أوليائِه هذا الصَّوم، ولو يوماً في عُمرِنا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة