علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. حسن أحمد جواد اللواتي
عن الكاتب :
طبيب وكاتب ومترجم، صدر له كتاب (المصمم الأعظم: قراءة نقدية في كتاب التصميم العظيم للبروفيسور ستيفن هوكنج)، كما ترجم الرواية الفلسفية (البعد الضائع في عالم صوفي) للمؤلف محمد رضا محمد اللواتي ونشرت الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية. Maitham6@gmail.com

العلوم الطبيعيَّة والوجود المجرَّد (2)


د. حسن أحمد جواد اللواتي

خصائص العلم وخصائص المادة:
المادة قابلة للانقسام إما خارجًا أو تخيُّلًا أو عقلًا: فأمَّا الانقسام الخارجي، فهو مثل كسر الشيء أو تقطيعه إلى أجزاء، وكلنا يفهم هذا النوع. أمَّا الانقسام التخيلي فهو إمكانية الذهن أن يتخيَّل انقسامَ الشيء إلى قسمين -حتى وإن لم يكن عمليًّا إجراء تلك القسمة بالأدوات المتوفرة في زمان ما- فمثلًا كانت الجسيمات الذرية مثل البروتونات غير قابلة للانقسام في وقت ما، ولكن كان من الممكن أن نتخيَّل ذلك الانقسام ذهنًا، ومع مرور الوقت فإنَّ توافر أدوات مثل مصادم الهادرونات الكبير بين فرنسا وسويسرا مكَّننا من كسر البروتونات إلى جسيمات أصغر، أو بعبارة أخرى نقل القسمة من الذهنية إلى الخارجية. أما القسمة العقلية، فهي عدم وجود مانع عقلي من قابلية الشيء للانقسام حتى وإن لم تتوافر الأدوات العملية خارجًا لتنفيذ تلك القسمة، وحتى لو لم يكن الذهن قادرًا على تخيُّل تلك القسمة بسبب ضعف المخيلة، والنقاش العقلي الذي يدعم صحة القسمة العقلية للأشياء هو أنَّ أيَّ شيء له حدود (حد دون حد بتعبير الفلاسفة) فإنه قابل للانقسام بين الحدين، وبعبارة بسيطة من الحياة اليومية: خذ أيَّ شيء مادي أمامك، وستجد أنَّ له حدًّا من اليمين وحدًّا من اليسار؛ وبالتالي فإنَّه لا يوجد مانع عقلي من قابلية ذلك الشيء أن ينقسم بين هذين الحدين، وحتى لو تدرَّجنا في تصغير الأحجام، فإنَّ كلَّ شيء له حدَّان فإن عند تقسيمه سيُوْجَد شيئان لكل منهما حدَّان على الأقل، ومهما بالغنا في الصِّغر، فإنَّ الشيء الصغير سيكون ناتجًا عن انقسام شيء أكبر منه وله حدان على الأقل؛ وبالتالي سيكون للشيء الأصغر حدَّان أيضًا على الأقل، وسيكون قابلًا -عقلًا- أن ينقسم بينهما؛ إذن فالأشياء المادية قابلة للانقسام بطريقة أو بأخرى.

لننظر الآن إلى العلم، ونختبر قدرته وقابليته للانقسام إلى أجزاء، إنَّ بإمكاننا أنْ نمزِّق الورقة أو الكتاب (أو أي شيء مادي استخدمناه لتوثيق وتسجيل وترميز المعلومات من قبيل قرص التخزين بالحاسب الآلي أو رقعة جلد أو قطعة حجر استخدمت للكتابة أو النحت) إلى أجزاء صغيرة، ولكن نفس المعلومة التي تمَّت كتابتها أو الترميز لها لن تنقسم، وستظلُّ لها وحدة حقيقية غير قابلة للانقسام.. تخيَّل في ذهنك معلومة تصورية (2) مثل الرقم 5، هل تستطيع أن تقسِّم المعلومة إلى قسمين؟ الجواب لا، ولو تبادر إلى ذهنك أن 5 تنقسم إلى 3 و2 أو إلى 4 و1 فأنت مُخطئ؛ لأنَّ هذه معلومات جديدة ومستقلة بحد ذاتها، وليست أجزاء للمعلومة الواحدة والتي هي تصوُّرك عن الرقم 5، وكذلك الأمر لو تناولت معلومة تصديقية (2).
من خصائص المادة أنها في تحرُّك وتغيُّر دائميْن، الجسيمات الذرية في حركة سريعة وخاضعة لتغيرات من شكل لآخر، وتتبادل مع بعضها جسيمات قوى تسمَّى بـ”البوزونات” طوال الوقت، وحتى ما يَبْدو لنا كفراغ كامل فإنه ليس فراغًا على الإطلاق؛ فهناك جسيمات افتراضية (وجسيمات افتراضية مضادة) تنشأ في الفراغ طوال الوقت بما يُشبه سطح الماء في حالة الغليان، وسرعان ما تحتفي هذه الجسيمات الافتراضية خلال زمن بالغ بالصغر، مُخلِّفة وراءها أثرًا إشعاعيًا صغيرًا.

وفي المقابل، فإنَّنا نجد أنَّ العلمَ لا يتغيَّر، ومع أنه قد يتبادر إلى ذهنك أنَّ التطوُّر بالعلوم هو أكبر دليل على تغيُّر العلم من حالة لحالة، ولكن ذلك خلط بين تغيُّر المعلومة نفسها وبين اكتشاف معلومة جديدة لم تكن معروفة سابقًا بحيث يتغيَّر عنوان المعلومة الأولى من الصحيح إلى الخاطئ، ومن الجديد إلى القديم، ولكن تغيُّر الوصف والعنوان للمعلومة ليس نفسه تغيُّراً بالمعلومة ذاتها، فلو كنت بالأمس تعتقد أن 1+1=3، ثم اكتشفت اليوم أنَّ 1+1=2، فإنَّ ذلك لا يعني أن العبارة الأولى اضمحلَّت واختفتْ، وإنما تغيَّر تصنيفها من عبارة صحيحة إلى عبارة خاطئة، والدليل على عدم تغيُّرها أننا ما زلنا اليوم نستطيع تذكرها كما كانت بالأمس، ونستطيع أن نضعها في مقارنة مع العبارة الأخرى، ولو كانت تغيَّرت لما استطعنا ذلك أبدًا، وهذا يدلُّ على أنَّ العلم يتغيَّر، بخلاف المادة التي من صميم صفاتها التغيُّر والحركة.
ومن خصائص المادة أنَّ لها صفاتٍ زمانيةً ومكانيةً؛ حيث يُمكن أن نُخصِّص للجسيمات المادية صفاتٍ مكانيةً في الأبعاد الثلاثة، وبُعداً زمانيًّا واحداً، ومع أنَّ الفيزياء الكمية -وبالذات مبدأ الشك لهايزنبرج- يمنع أن نحدِّد موقع الجسيم وسرعته في أي وقت مُحدَّد بالدقة المطلوبة، فإنه لا يمنع أن نضع احتمالات رياضية مُحدِّدة لموقع الجسيم وسرعته، وبعبارة أخرى فإنَّ مبدأ الشك والفيزياء الكمية لا تمنعان وجود الجسيمات في المكان والزمان، وإنما تضعان قيودًا على دقة المعرفة، ولكن لا تُخرجان الجسيم من إطار المكان والزمان مطلقًا.

وفي المقابل، فإنَّ العلمَ ليس أمراً يُمكن تأطيره بالمكان والزمان، فهو موجود لا-مكاني ولا-زماني، ومع أنَّ أدوات حفظ المعرفة قد تكون أدوات مادية -مثل: الكتابة على الورق، أو الترميز على قرص ممغنط، أو النحت على حجر، أو النقش على قطعة جلد؛ وبالتالي تكون أدوات مكانية وزمانية- إلا أنَّ نفسَ المعلومة ليست مما يخضع لقوانين المكان والزمان.
ومن ناحية أخرى، فإنَّنا نجد أنَّ الأمور التي تخضع للمكان والزمان إنما تخضع لقوانين خاصة في تنقلاتها داخل الإطار المكاني والزماني؛ فمثلاً عندما تنقل الكتاب من الطاولة إلى رف المكتبة فإنك تزيل وجود الكتاب من الطاولة وتضيف وجوده إلى رف المكتبة، وبعبارة أخرى فإنَّ الكتاب ينعدم من الطاولة ليوجد في رف الكتب، وهذا النوع من الانتقال يُسمَّى “التجافي”، في حين أنَّ العلم حين ينتقل من ذهن المعلِّم إلى ذهن الطالب فإنه لا يفقد وجوده في ذهن المعلِّم ولا ينعدم لديه، وهو ما يُسمَّى بـ”الانتقال بالتجلي”، وواضح أنَّ الانتقال بالتجلي ليس من صفات المادة.

الطاقة مادةٌ أيضاً
لا بُدَّ أنَّ بعضنا انتبه أثناء قراءته لخصائص المادة أنَّ الطاقة أيضًا نَوْع من أنواع المادة، ولكن الطاقة لا تشغل حيزًا من المكان، كما أنَّها ليست بالأمر القابل للانقسام، فهل ينقض ذلك استدلالنا على تجرُّد العلم؟ لنحاول الإجابة عن ذلك من خلال ما يلي:
– لا يُشترط أنْ تنطبقَ جميع الأدلة على كل المصاديق؛ فيكفي أن ينطبق شيء واحد من الأدلة على الطاقة لنعلم أنَّ العلم ليس بمادي، وعند الرجوع للنقاط التي قدَّمنها للدلالة على أنَّ طبيعة العلم مخالفة لطبيعة المادة، نجد أنَّ مسألة التغيُّر والتبدُّل تنطبقُ على الطاقة؛ فالطاقة في تغيُّر دائم ومستمر من شكل لآخر كما نعلم جيدًا، ولكن العلم لا يتغيَّر ولا يتبدَّل؛ لذا فلو لم يكن لدينا أي دليل آخر لكان ذلك كافيًا جدًّا لاستبعاد العلم من فئة المادة والطاقة.
وبالرغم من أنَّ الطاقة لا تشغل الحيز المكاني، إلا أنها تتحوَّل إلى جسيمات تشغل الحيز المكاني؛ فالطاقة والمادة وجهان لعملة واحدة، وكما أنَّه يُمكن للجسيمات أن تتحوَّل إلى طاقة صرفة من خلال التقائها بالجسيمات المضادة، فإنَّ الطاقة أيضا تتحوَّل إلى جسيمات مادية لها صفات المكان والزمان، وهذا يدلُّ على أنَّ الطاقة وإن كانت لا تتصرَّف بشكل مكاني في وقت ما، إلا أنها تسلك ذلك السلوك في وقت آخر حينما تكون بشكل آخر.
وبذلك نكون قد أثبتنا أنَّ العلم أمرٌ مجرَّد وغير مادي، ومع ثبوت شيء واحد غير مادي في الوجود نستطيع القول بأنَّ عبارة “كل الوجود مادي” هي عبارة خاطئة، وأن جزءًا من الوجود غير مادي، وقد يكون هذا الجزء غير المادي صغيرًا أو كبيرًا، ولكن ذلك لا يعنينا في هذه اللحظة وله بحثه الخاص ونقاشه الخاص، ومن المؤكَّد أن هناك نتائجَ تترتب على ما وصلنا إليه في هذا المقال، وتبعات إبيستمولوجية وأنطولوجية، وسنخصِّص لها مقالًا آخر إنْ شاءَ الله تعالى.
ــــــــــ
2- تنقسمُ المعلومات إلى: تصورية، وتصديقية؛ فتصورك للسماء والماء مثال على التصور الذي لا يقبل الصدق والكذب (الصحة والخطأ)؛ لأنه مجرد تصور لا حُكم فيه، ولكن حين تقول أو تفكر في أنَّ السماء زرقاء، أو أنَّ الماء سائل فتلك المعلومة تُسمَّى تصديقيا؛ لأنك حكمت على السماء بأنها زرقاء، وحكمت على البحر بالسيولة، وقد يكون حكمك صادقا أو يكون خاطئا (كاذبا بتعبير المنطق).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة