مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

العمل الرسالي وتحديات الراهن (1)


إيمان شمس الدين

طالما كان خط الإفراط والتفريط حاكمًا على طول التاريخ، خاصة على مستوى الآراء التي تستقرئ النص بأدوات علمية، وتستنبط الأحكام من أدلتها الظنية، وكانت العدالة النفسية من عناصر الحضور الخامل والنادر، وهو ما يمكن استقراؤه من المناهج والمسارات الموجودة عبر التاريخ .
ومن الملاحظ أن الهدف الرسالي هو آلي أكثر منه غائي، كونه سبيلًا وطريقًا لهدف أسمى وهو رضا الله، وكون الرسالة مودعة في رحم الحركة ومرتبطة بها ارتباطًا عضويًّا ووظيفيًّا، يترتب بهما وعليهما سويًّا إحراز الأثر الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع.
فأي دعوة تكتنز العلم لا يتبعها تطبيق وعمل، فهي دعوة تبقى في فضاءات بعيدة لا يمكن إحرازها أثر حقيقي في محيط الفرد والمجتمع .
فالعلم يهتف بالعمل وإلا تركه وارتحل كما ورد في الأثر.
فالفكر متقدم على العمل لكنه غير منفك عنه، بل لا قيمة للفكرة في عالم الحقيقة إلا إذا تم تنفيذها في ساحات العمل الرسالي الناهض بالعقل والوعي.
فمجتمعاتنا منقسمة بين أهداف رسالية باتت غاية في ذاتها، لكنها مفرغة من الحراكية التطبيقية، وتدور في طاحونة التنظير والتبليغ فقط، رغم ما للتبليغ من أهمية كبيرة لكن أهميته تكمن في كونه محركًا بالأفكار إلى مشاريع عمل تنفذ وتطبق كي تحول المجتمع تدريجيًّا لمجتمع موحد، ليتحول إلى تبليغ عاطل عن العمل. خاصة مع عدم التزام كثير من المبلغين الرساليين بأغلب ما يدعو إليه ويطرحه، وهو ما ينافي الآية الكريمة : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" البقرة ٤٤
وهي غاية في الصراحة في مقصود خطابها والفئة المستهدفة بها.
وبين أهداف حركية لكنها فارغة من المحتوى الرسالي التأسيسي الأصيل، هو مجرد حراك كمي يقوم به أفراد يملكون عزمًا وعقلًا وقّادًا بالأفكار، وحيويةً فذة، أي هم طاقات لكنها واقعًا طاقات مهدورة وعاطلة عن التنظير، خلاقيتها للأفكار عالية لكنها أفكار لا تخضع لمبضع التنظير والتشذيب والتقريب من الواقع وإنزالها بعد ذلك بآليات صالحة للتطبيق، أفكار تخلط الحق بالباطل، والغث بالسمين، تحتاج غربلة تدمج بين النص والعقل بأدوات أصيلة ومنهج متقن له مراجعة الفكرية والمنهجية. أو أنهم عمال تنفيذيين بمهارة عالية لكن دون وجود خطة منهجية وأهداف رسالية مرحلية واضحة، يقود عملهم التغير اللحظي المرحلي في متطلبات المجتمع والسياسة.

وقد قال الله في محكم كتابه: "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "الكهف ١٠٤
"وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون"  الأحزاب ٨٠
هذا الحراك الكمي غالبًا أفراده لا يملكون الأهلية الحقيقية في قيادة المشاريع المثمرة واقعيًّا، كون قراءة مجموعة كتب والمشاركة بمجموعة مؤتمرات ووجود مجموعة مشاريع لا تعتبر معيارًا حقيقيًّا وواقعيًّا منفردة في قياس أهلية الفرد، بل المعيار الكيفي لابد أن يجتمع مع الكمي وليس العكس، في تقييم أهلية الأفراد للقيام بنهضة المجتمع على كافة الأصعدة، كون كل منا له مرتبة وجودية ترتبط بوعائه وقابليته ومدى إدراكه للحق والحقيقة. هذا فضلًا عن دخول المحسوبيات في ترشيح الشخصيات وليس الكفاءة، حتى في الوسط المتدين غالبًا يكون الترشيح في بعض أوساط الحراك الرسالي في بعض الساحات قائمًا على ترشيح شخصاني وليس معياريًّا، يغلب عليه مدى طاعة المرشح ومدى التزامه بالولاء لهذه الجهة، وقد يكون يملك مقومات علمية وعملية لكن أصل ترشيحه يكون لتلك الأسباب لا لمقوماته وكفاءته.

وهو ما يتضح جليًّا عندما يختلف هذا الشخص مع تلك الرموز فيتم إقصاؤه لخروجه عن مبدأ الطاعة رغم كفاءته وأهليته العالية، لكن لمجرد انتقاده واعتراضه تسقط كل تلك المؤهلات.
وقد ورد في الأثر النهي عن تصدي غير الأهل بوجود من هو أهل للتصدي.
والأهلية هنا لا تعني إلا بالكفاءة والقدرة والاقتدار ومدى اتران النفس وتخليصها من الهوى وميلها للحق والحقيقة، وثباتها على الحق وقدرتها على تنفيذ الخطط بفعالية عالية وخلاقية إبداعية تصب في صالح بناء الإنسان ووعيه. وامتلاك قدرة على اكتشاف مكامن الخلل في المشاريع الرسالية وفاعلية في تصويبها وسد ثغراتها بما يصب في سبيل الله لا سبيل الرموز.
وأستطيع القول إن كثيرًا من كوادر العمل الرسالي تتعاطى مع الدعوة الرسالية والعمل في سبيل الله بطريقة نسبية، بحيث تصبح أي فاعلية لها علاقة بمدى ما تحققه من مصلحة للكادر ولرضا القيادات التي بيدها مصالح ومقدرات هذا التيار الرسالي أو ذاك.
لكن العمل الرسالي الحقيقي يجعل الكيف هو المعيار الحاكم واجتماع الكم والكيف هو نور على نور في تقييم الكفاءات الموجودة .
إننا نحتاج الرسالية الحراكية المنتجة وإن لم تحرز ثمارها على المدى القريب، لكن إن كانت أهليتها عالية ومنهجيتها سليمة مستوية على صراط مستقيم، فإن ذلك حتمًا ينتج ثمارًا وإن كان على المدى البعيد .

فالمطلوب في ذاته ليس العمل والتبليغ، وإنما إحراز رضا الله، والرسالية الحراكية سبيل إلى هذا الرضا، وكي نهتدي السبيل لابد أن تكون أدواته ومناهجه مستويًا على الصراط المستقيم، ويكون مقترنًا كيفه بكمه وقوله بفعله، ومحرزًا للعدالة على كافة المستويات ، ومعتدلًا لا يميل إلى الإفراط ولا إلى التفريط.
فلا تبليغ رسالي دون حركية هادفة لتحقيق ملكوت السماء على الأرض، ولا حراك أرضي دون توسله بالرسالية الملكوتية السماوية كمنهج يستقيم عليه .
أما انتشار ثقافة الكم الحراكي لمجرد إثبات الذات التي جبلت على حب العمل، فإن النتائج ستكون عكسية كما في التبليغ المتجرد من أي حراك تطبيقي رسالي .
فالرسالية الحركية تتطلب ضوابط لتضبط إيقاعها وفق أسس سليمة تحفظ لها تحقيق غايتها في رضا الله بتوسل آليات ومنهج سليم .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة