علمٌ وفكر

الإيمان، وحقيقةُ المَشيئة


الشريف المرتضى

قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ يونس:99.
معنى ذلك: لو شاء ربّك لأَلجَأ الناسَ أجمعين إلى الإيمان، لكنّه تعالى، لو فعل ذلك لزال التكليف، فلم يشأ ذلك، بل شاء أن يُطيعوا على وجه التطوّع والإيثار لا على وجه الإجبار والاضطرار. وقد بيّن الله ذلك فقال: ﴿..أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ..﴾، يريد أنّي أنا أقدَرُ على الإكراه منك ولكنّه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..﴾ البقرة:256.
وكذلك الجواب في قوله: ﴿.. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ..﴾ الأنعام:112.. [أي] ولو شاء لَحالَ بينهم وبين ذلك. ولو فعلَ ذلك لزال التكليف عن العباد، لأنّه لا يكون الأمر والنهي إلّا مع الاختيار لا مع الإلجاء والاضطرار...
وقد بيّن الله في كتابه العزيز أنّه لم يشأ الشِّرك، وكذّب الذين أضافوا إليه ذلك، فقال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ..﴾ الأنعام:148، فأخبروا أنّهم إنما أشركوا بمشيئة الله تعالى فلذلك كذَّبهم. ولو كانوا أرادوا أنّهلو شاء اللهُ لحالَ بيننا وبين الإيمان لما كذّبهم الله. قال تعالى تكذيباً لهم: ﴿.. كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا..﴾ - يعني عذابنا - ﴿.. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا..﴾ - يعني هل عندكم من علم أنّ الله يشاء الشرك. ثمّ قال: ﴿.. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ الأنعام:148، يعني تكذبون...
 وقال عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ النحل:35. خبّر أنّ الرسلَ قد دعتْ إلى الإيمان، فلو كان الله تعالى شاء الشركَ لكانت الرسلُ قد دعتْ خلافَ ما شاء الله، فعلمنا أن الله لم يشأ الشرك.

حقيقةُ مشيئة العبد
فإنْ قال بعض الأغبياء: فهل يشاء العبد شيئاً أو هل تكون للعبد إرادة؟ قيل له: نعم، قد شاء ما أمكنه الله من مشيئته، ويريد ما أمَرَه اللهُ بإرادته، فالقوّة على الإرادة فعل الله، والإرادة فعل العبد.
والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا..﴾ الكهف:29. وقال تعالى: ﴿.. فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ المزمل:19... وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ..﴾ يوسف:56، وقال: ﴿.. فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا..﴾ الأعراف:19، وقال: ﴿..لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ الكهف:77.
وقال تعالى فيما بيّن أنّ العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته، فقال: ﴿..تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ..﴾ الأنفال:67... وقال: ﴿.. يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ..﴾الفتح:15... وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ..﴾ المائدة:91. وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع.
 فإنْ قال: فما معنى قوله: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ..﴾؟
قيل له: إنّ الله ذَكَرَ هذا المعنى في موضعيْن، وقد بيّنهما ودلّ عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على أنّها مشيئته في الطاعة، فقال: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ التكوير:28-29، فهو، عزّ وجلّ، شاءَ الاستقامةَ ولم يشأ الاعوجاج ولا الكفر.
وقال في موضعٍ آخر: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ..﴾ الإنسان:29-30، فالله قد شاءَ اتخاذَ السبيل ولم يشأ العبادُ ذلك إلّا وقد شاء الله لهم، فأمّا الصَّدّ عن السبيل وصرفُ العباد عن الطاعة، فلم يشأه عزّ وجلّ.

تفنيدُ القول بأنّ الله أراد المعاصي
ويقال لهم: أليس المريدُ لشَتمه غيرَ حكيم؟ فمن قولهم: نعم، قيل لهم: أو ليس المخبر بالكذب كاذباً؟ فمن قولهم: نعم، قيل لهم: وقد زعمتم أنّ الله يريد شتمه ويكون حكيماً! فلا بدّ من الإقرار بذلك، أو يتركوا قولهم.
ويقال لهم: فما أنكرتم أن يُخبر بالكذب ولا يكون كاذباً؟ فإن منعوا من ذلك، قيل لهم: ولا يجب أن يكون حكيماً بإرادة السَّفَه وإرادة شتم نفسه، ولا يجدون إلى الفصل سبيلاً. فإن أجازوا على الله أن يخبر بالكذب لم يأمنوا بعدُ إخبارَه عن البعث والنشور والجنّة والنار أنّها كلّها كذِب، ويكون بذلك صادقاً، ولا يجدون من الخروج عن هذا الكلام سبيلاً.
ويقال لهم: فما تريدون أنتم من الكفّار؟ فإنْ قالوا: نريد من الكفّار الكفر، فقد أقرّوا على أنفسهم بأنّهم يريدون أن يُكفَر بالله، ويجب عليهم أن يُجيزوا ذلك على النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بأن يكون مريداً للكفر بالله تعالى، وهذا غاية سوء الثناء عليه.
وإن قالوا: إنّ الذي نريده من الكفّار الإيمان. قيل لهم: فأيّما أفضل؟ ما أردتم من الإيمان أو ما أراد اللهُ من الكفر؟ فإن قالوا: ما أراد الله خيرٌ ممّا أردنا من الإيمان، فقد زعموا أنّ الكفر خيرٌ من الإيمان. وإن قالوا: إنّ ما أردنا من الإيمان خيرٌ ممّا أراده الله من الكفر، فقد زعموا أنّهم أولى بالخير والفضل من الله، وكفاهم بذلك خِزياً.
فيقال لهم: فما يجب على العباد.. يجب عليهم أن يفعلوا ما تريدون أنتم أو ما يريد الله؟ فإن قالوا: ما يريد الله. فقد زعموا أنّ على أكثر العباد أن يكفروا، إذ كان الله يريد لهم الكفر. وإن قالوا: أنّه يجب على العباد أن يفعلوا ما نريد من الإيمان ولا يفعلوا ما يريد الله من الكفر، فقد زعموا أنّ اتّباع ما أرادوا هم أوجبُ على الخلق من اتّباع ما أراد الله، وكفاهم بهذا قُبحاً.

ولولا كراهة طول الكتاب لسألناهم في قولهم، إنّ الله تعالى أراد المعاصي، عن مسائل كثيرة يتبيّن فيها فساد قولهم، وفيما ذكرناه كفاية، والحمد لله رب العالمين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة