مقالات

الحج و الغرض من إيجاد الإنسان


الشيخ محمد مهدي النراقي

اعلم أن الحج أعظم أركان الدين، وعمدة ما يقرب العبد إلى رب العالمين، وهو أهم التكاليف الإلهية وأثقلها، وأصعب العبادات البدنية وأفضلها، وأعظم بعبادة ينعدم بفقدها الدين، ويساوى تاركها اليهود والنصارى في الخسران المبين. والأخبار التي وردت في فضيلته وفي ذم تاركه كثيرة مذكورة في كتب الأخبار.
واعلم أن الغرض الأصلي من إيجاد الإنسان معرفة الله والوصول إلى حبه والأنس به، والوصول إليه بالحب والأنس يتوقف على صفاء النفس وتجردها. فكلما صارت النفس أصفى وأشد تجردًا، كان أنسها وحبها بالله أشد وأكثر. وصفاء النفس وتجردها موقوف على التنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات، والانقطاع عن الحطام الدنيوية، وتحريك الجوارح وإيقاعها لأجله في الأعمال الشاقة، والتجرد لذكره وتوجيه القلب إليه. ولذلك شرعت العبادات المشتملة على هذه الأمور، إذ بعضها إنفاق المال وبذله، الموجب للانقطاع عن الحطام الدنية، كالزكاة والخمس والصدقات، وبعضها الكف عن الشهوات واللذات، كالصوم، وبعضها التجرد لذكر الله وتوجيه القلب إليه، وارتكاب تحريك الأعضاء وتعبها، كالصلاة، والحج من بينها مشتمل على جميع هذه الأمور مع الزيادة، إذ فيه هجران أوطان، وإتعاب أبدان، وإنفاق اموال، وانقطاع آمال، وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وحضور مشاعر، وشهود شعائر، ويتحقق في أعماله التجرد لذكر الله، والإقبال عليه بضروب الطاعات والعبادات، مع كون أعماله أمورًا لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فإن سائر العبادات أعمال وأفعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس إليها ميل، وللطبع بها أنس.

وأما بعض أعمال الحج، كرمي الجمار وترددات السعي، فلا حظ للنفس ولا أنس للطبع فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون الإقدام عليها إلا لمجرد الأمر وقصد الامتثال له من حيث أنه أمر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلًا ما، فيكون ذلك الميل معينًا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: في الحج على الخصوص: "لبيك بحجة حقًّا وتعبدًا ورقًّا!"، ولم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه العبادة-أي ما لم يهتد العقل إلى معناه ووجهه-أبلغ أنواع العبادات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطبع والبغي إلى الاسترقاق، فتعجب بعض الناس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الجهل بأسرار التعبدات، وهذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة كل عمل من أعماله على بعض أحوال الآخرة، أو في بعض أسرار أخر-كما يأتي-ما فيه من اجتماع أهل العالم في موضع تكرر فيه نزول الوحي، وهبوط جبرئيل وغيره من الملائكة المقربين على رسوله المكرم، ومن قبله على خليله المعظم-عليهما أفضل الصلاة-، بل لا يزال مرجعًا ومنزلًا لجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتم الرسل، ومهبطًا للوحي، ومحلًّا لنزول طوائف الملائكة. وقد تولد فيه سيد الرسل صلى الله عليه وآله وتوطأت أكثر مواضعه قدمه الشريفة وأقدام سائر الأنبياء، ولذلك سمى ب (البيت العتيق)، وقد شرفه الله تعالى بالإضافة إلى نفسه، ونصبه مقصدًا لعباده، وجعل ما حواليه حرمًا لبيته، وتفخيمًا لأمره، وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وقطع شجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثاء غبراء، متواضعين لرب البيت، ومستكنين له، خضوعًا لجلاله، واستكانة لعزته وعظمته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يحومه بيت أو يكتنفه بلد.

ولا ريب في أن الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول المؤالفة والمصاحبة، ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتظاهر الهمم، وتعاون النفوس على التضرع والابتهال والدعاء الموجب لسرعة الإجابة، بذكر النبى صلى الله عليه وآله وإجلاله، ونزول الوحي عليه، وغاية سعيه واهتمامه في إعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، والصفاء للنفس. ثم لكون الحج أعظم التكليفات لهذه الأمة، جعل بمنزلة الرهبانية في الملل السالفة، فإن الأمم الماضية إذا أرادوا العمل لأصعب التكليف وأشقها على النفس، انفردوا عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق بطلب الأنس بالله، والتجرد له في جميع الحركات والسكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، وألزموا أنفسهم الرياضات الشاقة، طمعًا فى الآخرة، وقد أثنى الله عليهم في كتابه، و قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾(المائدة:82).

وقال تعالى: ﴿ َرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(الحديد:27).

ولما اندرس ذلك، وأقبل الخلق على اتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله تعالى، وفروا عنها، بعث الله تعالى من سرة البطحاء محمدًا صلى الله عليه وآله، لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فسأله أهل الملل من الرهبانية والسياحة في دينه، فقال صلى الله عليه واله: "أبدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبير على كل شرف-يعني الحج-، وأبدلنا بالسياحة الصوم‏". فأنعم الله على هذه الأمة، بأن جعل الحج رهبانية لهم، فهو بإزاء أعظم التكاليف والطاعات في الملل السابقة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة