مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

قيمة العمر في حياة المسلم... وكيف نجتنب إضاعة الفرصة؟


السيد عباس نور الدين

يمتلك المسلم الواقعيّ فلسفة عميقة حول الزمان؛ ومن هذه الرؤية تنشأ علاقة خاصّة بينه وبين العمر الذي يُفترض أنّه فرصته على هذه الأرض.
أعمارنا الواقعيّة لا ينبغي أن تُقاس بعدد السنين التي نحسبها وفق دوران الأرض حول الشمس، بل بحسب القيمة التي نضيفها إلى هذا العالم. ولأجل ذلك ينبغي أوّلًا أن نتحرّر من الاعتبارات الخاصّة بالزمان.
لأهل الدنيا قيمٌ ترتبط بالمال والأولاد والمقتنيات؛ فإن جاء شخص إلى هذا العالم ولم يورث مالًا ولا دارًا، ولم يترك عقبًا وولدًا، يكون بالنسبة لهم كالمعدوم الذي أضاع عمره. لكن القيمة الحقيقية للحياة وفق الرؤية الإسلامية هي شيء أعمق وأرقى بكثير.

لا يخفى مدى التأثير السلبيّ والمضلّل الذي ينجم عن نظرتنا وارتباطنا الخاطئ بالزمان على صعيد معرفتنا بحقيقة أساسية وهي "من نحن". فالكثير من الناس يقعون أسرى الزمان بسبب تقيّدهم بتلك الاعتبارات الأرضية أو التاريخية المرتبطة بتحديده ومفهومه وماهيته؛ فينقطعون بسبب ذلك عن الاتّصال اللازم بأنفسهم؛ ويؤدّي ذلك بالطبع إلى الجهل بالنفس ونسيانها.
إنّ وقوعنا أسرى للزمان لا يختلف كثيرًا عمّا يمكن أن يحدث بالنسبة للمكان. فحين نعرّف أنفسنا ونحدّد هويتنا النهائية بناءً على المكان الفلاني، وتصبح الجغرافيا مكوّنًا أساسيًّا لهويّتنا، فمن الصعب أن ندرك ما هي العناصر الجوهرية لإنسانيتنا. هذا ما شاهدناه على مدى التاريخ، ونشاهده اليوم أيضًا، والذي يتجلّى بتلك النزعات القومية المضلّلة، والتي تتمسّك بالجغرافيا اعتباطًا.
إنّ وجودنا في أماكن محدّدة وأزمنة معيّنة لا يمنحنا شيئًا إضافيًّا إلا أن يلقي على عاتقنا مجموعة من المسؤوليات المرتبطة بها؛ لكن هذا التواجد لا يحدّد حقيقة من نحن ولا يمكن أن يخبرنا عن عمق إنسانيّتنا. ومن عرف نفسه كإنسان يدرك أنّه كائنٌ محيطٌ بالطبيعة ويعلو على الزمان والمكان.

المسلم الواقعيّ كائنٌ يسعى للتحرّر من كل الأغلال التي يمكن أن تقيّد روحه، ولأجل ذلك فهو توّاق للرجوع إلى وطنه الأصليّ، حيث نشأت منه الروح. لكنّه يعلم أنّ هذا التحرّر لا يكتمل إلا بعد أن يدرك الحكمة من وجوده في قالب الزمان، ويعمل على أساسها.. فلماذا وُجد في هذا العصر؟ ولماذا يحدّد له مدّة زمنية معينة على الأرض؟ وهل يمكن أن يرتقي ويحلّق فيعبر حدود الزمان والمكان؟
أوّل ما يدركه هذا المسلم من معاني الحياة هو أنّ عمره ليس سوى فرصة (وإن تضمّنت مجموعة من الفرص الجزئيّة)؛ وأنّ هذه الفرصة هي لأجل أن يحقّق شيئًا مهمًّا.. فإن لم يفعل ذلك، فقد خسر خسرانًا مبينًا.
وهذا يعني أنّ الحياة لا تخون صاحبها، وأنّ العمر لا ينقضي من دون إتاحة هذه الفرصة لكل إنسان؛ بل سيمتد معها حتى تُتاح له.. فإذا وصلنا إلى تلك الحالة التي ييأس العمر منّا لتحقيق الغاية المنشودة، وأنّه مهما طال فلن نكون بصدد الاستفادة منه لتحقيقها، فلن يبقى لوجودنا على الأرض أهمية أو قيمة أو ضرورة. اللهم إلا إذا كان بقاؤنا عليها لسبب يتعلّق بغيرنا، من دون أن يعود علينا بأي نفع!

لنتحدّث أوّلًا عن هذه الفرصة الكبيرة.. فالعمر في الحكمة الإسلامية عبارة عن ذلك الوعاء الزمانيّ الذي يتّسع ويضيق بحسب تلك الفرصة التي يحتاجها الإنسان ليتعرّف إلى ما ينبغي أن يعرفه فيما يرتبط بسبب وجوده، وليتحقق على ضوء ذلك بالعبودية الخالصة لله تعالى. وإنما يحصل ذلك إذا أدى الأمانة وتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقه في زمانه ومكانه.
من الصعب أن نحدّد وقت حصول هذه المعرفة، في أي سنة أو شهر أو يوم من حياتنا. فهذه المعرفة عمل الله تعالى ويعبّر عنها بإتمام الحجّة من قِبله عزّ وجل؛ فقد تتم حجّة الله علينا في الصغر، أو يؤجّل حصولها حتى الساعات الأخيرة من الحياة. وبتمامها، يُفترض بالإنسان أن يتّخذ الموقف المتناسب معها، وهو التصديق والإيمان. وكل ما يبقى بعدها من عمر فهو لأجل تثبيت إيمانه بالعمل بحسب ما تدعو إليه وتلزمنا به.
قد يتعرّف بعض الناس على هذه الحقيقة في لحظات حياتهم الأخيرة؛ ولهذا، لا يستبعد المؤمن أن يكون من بين هؤلاء الذين تحصل لهم هذه اليقظة في آخر العمر؛ ولهذا فإنّه لا يفتأ عن الدعاء ليل نهار أن يرزقه الله هذه البصيرة واليقظة ويخرق له جميع حجب الظلام والنور فيصل إلى معدن العظمة. فإذا عرف الحقيقة، وأدرك مسؤوليته الزمانية والمكانية تجاهها، يكون ما بقي من عمره فرصة لإدراك تجلياتها. وهكذا..
تلك الحقيقة التي نتحدّث عنها هنا هي مفتاح أبواب حقائق ومعارف لا تتناهى؛ وبالتزامنا بها، يمكن أن نتعرّف إلى الحكمة الكامنة وراء خلق الأشياء ووقوع الأحداث وكل ما يثير حيرتنا ودهشتنا في هذا العالم.. والعاقل الذكيّ هو الذي يطلبها حثيثًا فتكون ضالّته المنشودة أينما كان، لكي يستفيد إلى أقصى حد ممكن من الوقت المتاح له.

إنّنا نصنع أعمارنا، ونحدّد آجالنا من حيث لا نشعر. والعامل الجوهريّ وراء ذلك يكمن في صدقنا في الطلب وفي العمل وفق ذلك. فإذا كنّا غير مبالين بهذه الحياة، ولم نبحث عن الحكمة من وجودنا ولم نسعَ لبلوغها، فسوف يكون عمرنا لغيرنا؛ كأن يجعلنا الله تعالى مجرّد عبرة للآخرين ليتّعظوا ولا يضيّعوا أعمارهم كما كنّا. وهكذا يفقد الإنسان قيمة العمر حتى لو عاش ألف سنة، وتفقد معه حياته مغزاها.
أمّا إذا سعينا بصدق لمعرفة ما يريده الله منّا، وأردنا بإخلاص أن نطابق بين هذه المعرفة والعمل، فإنّ الله تعالى سيبارك لنا بأعمارنا، وننال من البركة والتوفيق بمقدار صدقنا والتزامنا هذا. ولن يكون مهمًّا عدد السنوات الأرضية التي نعيشها؛ لأنّ الناتج الفعليّ يتحدّد على أساس ذانك العاملين.
تصوّر لو أنّك طلبت من الله بكل صدق وإخلاص أن يعرّفك على كل شيء يمكن أن يعرفه إنسان في هذه الحياة، وعلم الله فيك الصدق في الالتزام والتطبيق المتناسب مع هذه المعرفة، فهل تتصوّر أنّ الله تعالى سيحرمك من ذلك؟!

إنّ الله عز وجل يريد أن يجعل هؤلاء الصادقين أنموذجًا واضحًا لمعنى الحياة وحقيقة العمر. وفي الحياة هذا المعنى الجميل الرائع وهو أنّه تعالى قادر على منح عباده كل ما يمكن أن يبلغه أي إنسان من الكمال في لحظةٍ واحدة (وهذا ما يفسّر وصول بعض الناس إلى هذا المقام في وقتٍ قصير جدًّا).
وحين ينفتح باب الحقائق والحِكم على الإنسان الصادق، لا يبقى سوى أمر واحد لينالها. وهذا الأمر يتحدّد في هذا العالم بناءً على أمانته وقدرته على الالتزام بما يعلم. فلا يتسبّب بحرماننا من الوصول إلى الحقيقة بعد هذا، إلا لما علمه الله من ضعفنا عن تحمّل هذه المسؤولية في هذا العالم. وربما نحتاج بعدها إلى نوع آخر من العمر والحياة. تلك الحياة التي تتوفّر في عالمٍ آخر، له قوانين وظروف تختلف عن عالمنا.
إنّ قدرتنا على الصدق العمليّ في هذا العالم الأرضيّ ترتبط كثيرًا بظروف نشأتنا والقوانين والسنن الإلهية الحاكمة عليها؛ وما لم نتمكّن من اختراق الحدود والموانع التي تتولّد بسبب تلك الظروف والسنن، وعجزنا عن العمل وفق ما عرفناه، فقد نحتاج إلى ظروفٍ أخرى ذات سنن وقوانين مختلفة؛ وهذا ما يتوفّر للبعض في عالمٍ آخر بعد هذه الحياة.
يفهم المسلم الواقعيّ أنّ للزمان حقيقة أعمق من هذه التحوّلات والتغيّرات التي يشاهدها في عالم الطبيعة؛ وهو أنّه عبارة عن تتالي التجليات الإلهية؛ وهذا معنى قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في‏ شَأْن‏}.[1] فللطبيعة أيام، ولله تعالى أيام. والله أمر أنبياءه بتذكيرنا بأيّامه هو حتى نتحوّل إليها؛ {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه‏}[2]. ومن استطاع أن ينتقل إلى الزمان الإلهيّ بشهود هذه التجلّيات، فلا حاجة له لعبور حاجز الزمان بالانتقال من هذه الدنيا، لأنّه في الواقع قد عبره بالإرادة والاختيار، ونفّذ تلك النصيحة النبوية المشهورة "موتوا قبل أن تموتوا".[3]
 ـــــــــــ
 
[1]. سورة الرحمن، الآية 29.
[2]. سورة إبراهيم، الآية 5.
[3]. بحار الأنوار، ج69، ص 59.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة