من التاريخ

قصة النبي إدريس(ع)

 

لم يذكر (ع) في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا}(1) وفي قوله:{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}(2).

 وفي الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل، فقد عده نبيًّا وصديقًا ومن الصابرين ومن الصالحين وأخبر أنه رفعه مكانًا عليًّا... ويسمى (ع) بهرمس، قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده ومنشئه وعمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة، ومولده بمنف، وقالوا: هو باليونانية إرميس وعرب بهرمس، ومعنى إرميس عطارد. وقال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، وهو عند العبرانيين خنوخ، وعرب اخنوخ، وسماه الله عزّ وجلّ في كتابه العربي المبين إدريس. وقال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون وقيل: أغثاذيمون المصري، ولم يذكروا من كان هذا الرجل، إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين والمصريين، وسموه أيضًا أورين الثاني وإدريس عندهم أورين الثالث، وتفسير غوثاذيمون السعيد الجد، وقالوا: خرج هرمس من مصر وجاب الأرض كلها ثم عاد إليها ورفعه الله إليه بها، وذلك بعد اثنين وثمانين سنة من عمره.

وقالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل ونشأ بها وأنه أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم وهو جد جد أبيه، لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستاني: إن أغثاذيمون هو شيث. ولما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم وشيث، فأطاعه أقلهم وخالفه جلهم، فنوى الرحلة عنهم وأمر من أطاعه منهم بذلك، فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ - وبابل بالسريانية النهر وكأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات - فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره. فخرج وخرجوا وساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون، فرأوا النيل ورأوا واديًا خاليًا من ساكن، فوقف إدريس على النيل وسبح الله وقال لجماعته: بابليون، واختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، وقيل: نهر كنهركم، وقيل: نهر مبارك، وقيل: إن «يون» في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب، وكأن معناه نهر أكبر، فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، وسائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان، والله أعلم بكل ذلك.

 وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله عزّ وجلّ، وتكلم الناس في أيامه باثنين وسبعين لسانًا، وعلمه الله عزّ وجلّ منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، ورسم لهم تمدين المدن، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسة المدنية وقرر لهم قواعدها، فبنت كل فرقة من الأمم مدنًا في أرضها، وكانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة أصغرها الرها وعلمهم العلوم. وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم، فإن الله عزّ وجلّ أفهمه سر الفلك وتركيبه ونقط اجتماع الكواكب فيه وأفهمه عدد السنين والحساب، ولولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك. وأقام للأمم سننًا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، وقسم الأرض أربعة أرباع، وجعل على كل ربع ملكًا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، وتقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة.

وأسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول إيلاوس وتفسيره الرحيم، والثاني أوس، والثالث سقلبيوس، والرابع أوس آمون، وقيل: إيلاوس آمون، وقيل: يسيلوخس وهو آمون الملك. انتهى موضع الحاجة. وهذه أحاديث وأنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل، غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة وأهل العلم جيلًا بعد جيل وتعظيمهم له واحترامهم لساحته وإنهاءهم أصول العلم إليه، يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي والإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (ع).(3)
ــــــ
(1) - سورة مريم: 56- 57.
(2) - سورة الأنبياء: 85- 86.
(3) - الميزان: ج14 /ص 68، 76.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة