قرآنيات

الحُجب المانعة من تدبُّر القرآن الكريم

 

السيد حسين البروجردي
اعلم أنّ الغرَض الأساسيّ من الذِّكر، والدعاء، والتلاوة، إنّما هو تجنّب مهاوي الغفلة والجهالة، والتحقّق بحقيقة العبوديّة لله المتعال. ولا يحصل ذلك إلا بالطهارة الكليّة عن أرجاس الشواغل القلبيّة والبدنيّة. فكما أنّ مَن ليس له الطهارة البدنية يَحرُم عليه مَسُّ ظاهر خطّ المصحف الشريف بظاهر بدنه، كذلك مَن ليس له الطهارة القلبيّة عن الأفكار الرديّة النفسانيّة، والأخلاق الرذيلة الشيطانيّة محرومٌ عن إدراك حقائق القرآن، والصعود في مدارج مراتب الإيمان.
فالحُرمة في الأول تشريعيّة، وفي الثاني تكوينيّة، كما أنّ الاستعاذة المندوبَ إليها عند تلاوة القرآن قوليّةٌ وفِعليّة، بل النافع منها هي الثانية.

ورد في النبويّ الشريف: «لولا أنّ الشّياطينَ يَحومون على قلوبِ بني آدم لَنَظروا إلى الملَكوت». ومن البيّن أنّ التدبّر في معاني القرآن وأسراره إنّما هو من عالَم الملكوت الذي لا يُدرَك إلّا بالإدراك القلبيّ الذي هو من عالم النور، والمحجوبون المنغمسون في غواسق عالم الغرور تقصُر مداركُهم عن فهْم هذا العالم وبلوغه. ﴿.. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج:46.
ولذا جعل الله تعالى قلوب المحجوبين العُصاة - بسوء اختيارهم – في أكنّةً أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْه وفِي آذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ فصلت:5.
وهذا هو الحجاب المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً﴾ الإسراء:45. وهذا الحجاب، وهو حجابُ الكفر، أوّلُ الحُجب وأعظمها.

* وثاني الحُجب: حجاب الفِسق والخروج عن الطاعة باقتراف كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، أو بالتخلّق بشيءٍ من الأخلاق الرديّة المهلكة كالكِبر، والعُجب، والرياء، وغيرها ممّا يجمعها متابعة الأهواء التي ورد أنّها الشِّركُ الخفيّ.
وهذا كلّه مما يُوجب ظُلمةَ القلوب وكدورتها، ولذا شرَط اللهُ تعالى الإنابةَ في الفهم والتذكّر، قال تعالى: ﴿..وما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ غافر:13، وقال تعالى: ﴿..إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الرعد:19.
وقد ورد عن مولانا الباقر عليه السلام: «مَا مِن شيءٍ أفسدَ للقلبِ من خَطيئة، إنّ القلبَ لَيُواقِعُ الخطيئةَ فما تزالُ به حتّى تَغلِبَ عليه فَيُصَيَّرَ أعلاهُ أسفلَه».
* ثالثها: الاشتغال بالملاهي والعادات وفضول العيش، بل حتى التكسّب وغيرها من الأفعال المباحة التي تُوجب اشتغال القلب بها، وصرْفَه عن غيرها، إذ ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ..﴾ الأحزاب:4، فمن اشتغل بشيءٍ من المباحات، صُرفت إليها همّته، واجتمع لها قلبُه، فمن أين يُمكن له الإقبال وفراغُ البال لفهم أسرار كلام ذي الجلال؟

* رابعها: حجاب الجهل بمعاني ظاهر ألفاظ القرآن الكريم. لأنّ الجاهل بمعاني مفردات القرآن، والصلاة، والدعاء، والأذكار وغيرها، كالعجميّ البحت الذي لا يعرف شيئاً من الألفاظ العربيّة التي ورد التوظيفُ بها، أو لا يعرف كثيراً من لغاتها، بل ربما يَلحَنُ في موادّ ألفاظها وهيئتها. ومَن كان كذلك، فليس له من الفضل والثواب ما للعالم المطَّلع على معانيها ومبانيها.

* خامسها: حجاب القراءة والاستقصاء في مراعاة تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها وحفظ صفاتها، وهذا الحجاب كالحُجب المتقدّمة من الحُجب الظلمانيّة التي تمنع القلوب من مشاهدة أنوار الغيوب، بل لا يزال الرجل معه مشتغلاً بترديد الحروف وتكرارها، مستغرق الهمّة في مراعاة صفاتها وآدابها التي ملأوا منها كتب التجويد والقراءة، بل لو لم يكن إلا مراعاة الصفات المتعددة المعدودة لكلّ حرفٍ لكفى به شغلاً شاغلاً عن التدبّر في معاني القرآن، والتفكّر في حقائقه.
وربّما ينضمّ إلى ذلك المَيل إلى التغنّي وترجيع الصوت به، والتردّد في صنوف الألحان.
بل يلحقهما أمرٌ ثالث، وهو ملاحظة الإعراب والبناء، ووجوه القراءات. ولذا ورد في الخبر: «مَنِ انهمكَ في طلبِ النّحوِ سُلِبَ الخشوعَ».
وكلٌّ من هذه الثلاثة حجابٌ قويٌّ لمن ابتُلِيَ بها، إلا ما كان منها صادراً على وجه الملَكة، بحيث لا حاجة معها إلى التفاتٍ جديدٍ أصلاً، فضلاً عن التكلّف والتشدّق الذي لا ينفكّ عنه غالباً أربابُ هذه الصناعة.

* سادسها: حجابُ تَعَلُّمِ العقائد وأخْذِها عن المحجوبين، والرجوع إلى تفاسير (الآخرين) وبياناتهم، وتأويلهم المتشابهات على مقتضى آرائهم وأهوائهم الباطلة.

ثمّ إنّ هذه العقائد الباطلة ربما تصيرُ راسخةً في النفس بحيث لا يكاد يلتفت معها إلى غيرها، وقد تكون مسموعة متردّدة في الذهن بحيث يمنعه الالتفات إليها عن التوجّه إلى غيرها، أو الشوق إلى تحصيله، بل ربّما يكون العلمُ ببعض الظواهر حجاباً عن الالتفات إلى الحقائق والبواطن، وإنْ كان كلٌّ منهما حقّاً وصدقاً بالنسبة إلى رُتبته ومقامه، فلا ينبغي الجمودُ على شيءٍ من الظواهر، وإن كان حقّاً منطبقاً على القواعد العربيّة، لأنّه يؤدّي إلى جحود الحقائق، والبواطن المقصودة.
فإنّي أرى كثيراً من أهل هذا الزمان إذا احتاجوا إلى تفسير آية رجعوا إلى ظواهر اللّغة العربيّة والتفاسير العاميّة، بل ربما تصرّفوا في معناها بقريحتهم البتراء، وبصيرتهم العمياء، من غير رجوعٍ إلى أخبار الأئمّة عليهم السّلام، ولا استضاءةٍ من أنوار أهل العصمة، بل يردّونها بعد الاطّلاع عليها، معلّلين بمخالفة الظاهر!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة