قرآنيات

تفسير الآية 43من سورة النور والآية 14من سورة الحديد (2)

 

الشهيد مرتضى المطهري
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ تطلق أحيانًا على من يكتب كتابًا كلمة "مؤلف" أو " مصنّف" أحيانًا أخرى. بعض الكتّاب في الحقيقة مؤلّفون، أي أنّهم يجمعون مواضيع متفرّقة في مكان واحد ويجعلون بينها اتساقا وتآلفًا. ولكن تستخدم كلمة المصنف في الحالات التي يكون فيها الكاتب قد ابتكر كل أو - على أدنى الاحتمالات - جلّ الكتاب.. ينقل أنّ أحد تلاميذ الشيخ المجلسي مازحه يومًا وأخذ يثني أمامه على كثرة كتب ومصنفات العلامة الحلّي في مختلف العلوم والأبواب، وفي أنواع الفقه وبمختلف أوجهه المختصر منها والمفصل والاختلافات الواقعة عند الشيعة وعند السنة وما شابه ذلك مما كان مدعاة لإعجاب التلاميذ الحاضرين، فالتفت إليهم المجلسي وقال: وما كتبناه نحن لا يقل عما كتبه العلامة الحلي. فأجابه التلميذ مازحًا: "ولكن بفارق أن ما كتبه كان تصنيفًا وما كتبتموه كان تأليفًا" إذن فالتأليف يعني جمع المسائل الموجودة سوية وإيجاد نوع من التآلف والانسجام بينها.

وقد وردت كلمة "التألف" في هذه الآية بمعنى أن الله تعالى يجمع السحب المتفرقة بواسطة الرياح، كالمؤلف الذي يؤلف بين مختلف المواضيع، ويجعل منه سحابًا متراكمًا.. وجاء في الآية أنه ﴿يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ ومرحلة الركام هذه مرحلة أعلى، أي ليست مجرد غيوم خفيفة متفرقة، بل تصبح متراكمة بعضها فوق بعض ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾، وهنا تقع نفس النتيجة التي ذكرت هناك، أي تخرج قطرات المطر من بين ثنايا تلك السحب.. ذكرت هذه الآية في سورة النور موضوعًا لم يكن يحمل بالنسبة للعلماء القدماء سوى جانبًّا تعبّديًّا لا أكثر، وذلك هو: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ﴾ كلمة السماء تعنى كل ما هو فوق، وهي مشتقة من "سمو" أي العلو. وكل ما هو في الأعلى يسميه القرآن سماء بما في ذلك الشمس والنجوم، بل وحتى المطر يسمى أحيانًا "سماء" وذلك قوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ (نوح/11).

بما أنه ينزل من الأعلى فهو سماء. وحتى الأمور الغيبية والملكوتية يسميها القرآن سماء لأنها من الوجهة المعنوية أعلى مقامًا. ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام/18).وكل ما هو قاهر ومسلط علينا فهو سماء أيضًا.
إذن يجب أن لا يقع أي وهم هنا، ففي كثير من الموارد - ومن جملة ذلك هذه الموارد الموجودة هنا - يقول القرآن نرسل من السحاب مطرًا، أما هنا فيقول ننزل من السماء مطرًا. والمراد من السماء هنا السحاب، والسحاب هو السماء. ﴿يُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ﴾ معناه ينزل من الأعلى. "ينزل" بمعنى يرسل تدريجيًّا. والفرق بين "الإنزال" و"التنزيل" هو أنّ الأول معناه الأرسال في مرة واحدة مثل ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر/1).

 ويعني الثاني النزول التدريجي.. ومن الواضح أن كلمة "ينزل" استعملت هنا لأن المطر والحالوب ينزل بالتدرج.. وينزل من السماء معناه ينزل من الأعلى تدريجيًّا. ولكن ما معنى "من جبال من برد"؟ اكتشف العلماء حديثًا أن الطبقات العليا من الجو حيث تتراكم الغيوم أحيانًا فوق بعضها تصبح الحرارة منخفضة جدًّا وتتكون هناك تراكمات تشبع حقًّا جبلًا من الثلج من ذا الذي كان يعلم بوجود مثل هذه الأمور ي تلك الطبقات الجوية العليا؟ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ والمراد هو نزول البرد. وقد تكون "من برد" متعلقة بـ "ينزل" أي ينزل بردًا من الجبال الموجودة هناك.
﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا يتوهم أحد أن إرادة الله نظير إرادة البشر فما أنّ يمرق السهم من القوس حتى يخرج أمره عن إرادة الرامي. وهذا يصدق على فعل البشر. أما فعل الله فلا يخرج بتاتًا عن إرادته ومشيئته وسلطانه.

ثمّ يشير بعد ذلك إلى أنّه حينما يبرق البرق: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾. ويتابع القرآن هنا من خلال المعلومات التي يقدّمها والتي تتطابق تماما مع الحقائق الجوية التي بلغها علم الإنسان بعد ألف وأربعمائة سنة، هدفه الأساسي ليؤكد أن هذه كلها آيات إلهية دالة على وجود الله، وأنه تعالى هو الذي أبدع هذا النظم وجعل الكون يسير عليه، فلابد من وجود الشمس لتشع النور والحرارة، وحيثما تصل حرارتها ترتفع درجة حرارة ذلك الموضع والحرارة تؤدي إلى تمدد حجم الهواء، والهواء الحار يرتفع إلى الأعلى والبارد يبقى في الأسفل، ويضغط الهواء الحار من الأعلى على الهواء البارد، فيحاول الهواء البارد النفوذ بين ثنايا الهواء فتنتج عن ذلك رياح، وجعل ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾. ومن الطبيعي أن تعاقب الليل والنهار يجعل معدل الحرارة التي تصل إلى مختلف بقاع الأرض في حالة متغيرة، وهذا من أسباب حدود هذه الظواهر الجوية.. ولكن على كل الأحوال هذه من الأنظمة التي جعلها الله تسير وفقًا لمشيئته، ولولا مشيئة الله وحكمته، لما كانت أمثال هذه القضايا تجري في الكون.

﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ (النور/44). كلمة "التقليب" مأخوذة من المصدر "قلب" ويصطلح علماء الصرف على الكلمة التي يحصل فيها تغيير في تقديم وتأخير حروفها ويقولون حصل فيها "قلب" أو "إقلاب" وسمي القلبُ قلبًا لأنه في حالة تقلّب دائم أي في حركة وخفقان متواصل. ويطلق على روح الإنسان خاصة اسم القلب لأنها تتقلب بين الحين والآخر من حال إلى حال، ومن فكر إلى فكر. وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلًا لطيفًا في هذا المجال قال فيه:"إنما مثل هذا القلب كمثل ريشة في فلاة يقلبها الريح ظهرًا لبطن". أي أنه يتقلّب بين مختلف الخواطر والأفكار، فمرة يحب ومرّة يكره، ومرّة في راحة ومرّة في ضيق.

الله سبحانه وتعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يذهب الليل ويأتي بالنهار، ويذهب النهار ويأتي بالليل. وهذا العملية ينتج عنها طبعًا أن الكرة الأرضية تكون دوراة ذات حركة سنوية تدور في كل 365 يومًا دورة واحدة حول الشمس، وتدور حركة دائرية أخرى حول ذاتها. ومثل الأرض مثل تفاحة يرميها شخص في الهواء ولكن يرميها بشكل يجعلها تدور حول ذاتها. وبما أنّ الأرض تدور حول ذاتها فقد نتج عن هذه العملية تعاقب الليل والنهار، وكما أسلفت القول فإن العلماء يقولون: أن توالي الليل والنهار يعد من أسباب حدوث الظواهر الجوية، لأنه يؤدّي بطبيعة الحال إلى اختلاف ضغط الهواء الذي ينتهي بدوره إلى حدوث حركة الرياح، التي تقود بدورها إلى تغييرات كثيرة أخرى.

ويبدو أنّ سر ذكر القرآن لهذا الموضوع بعد الحديث عن السحب وهطول الأمطار هو الإشارة إلى تأثير تعاقب الليل والنهار في حدوث التغييرات الجوية.
فهو تعالى يقلب الليل والنهار من أجل أن تكون: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ فيه عبرة لأولي الأبصار، وكلمة "عبرة" مشتقة من "العبور" من المعروف أن النظر يقسم إلى نوعين: الأول سطحي لا يرى إلا ظواهر الأشياء، كنظر الحيوان، أو الإنسان الذي في مستوى الحيوان، هذان يلاحظان ظاهر الأمور فحسب، ولا يستنبطان ما وراءها. ولأضرب مثلًا على هذا الأمر من حياتنا. فقد تحصل في الأسعار تقلبات أحيانًا كأن يرتفع سعر السلعة اليوم ويرخص غدًا، أو بالعكس (وأن كانت السلعة في أجوائنا إذا غلت لا ترخص بعدها أبدًا) والناس عادة لا تلاحظ الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى ارتفاع سعر السلعة أو انخفاضه، ولكن يأتي شخص ينظر الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.

ونسوق مثلًا آخر عن توجه الشبان نحو الدين أو أعراضهم عنه. فقد يكتفي البعض بالقول أن الشّبان أصبح لديهم إقبال على الدين، أو بالعكس، من غير أن ينظر الأسباب والدوافع التي حدث بهم إلى الإقبال أو الإدبار. بينما يأتي شخص آخر ويتعمق في النظر إلى العوامل التي أدت بالشباب إلى التوجه نحو الدين أو إدبارهم عنه. ومثل هذا الشخص الذي ينظر إلى الأسباب والعوامل الأساسية يكون له تسلط على الحوادث وقدرة على استنباطها.
وكذلك الحال بالنسبة للهزيمة التي تلحق بقوم أو النصر الذي يحرزه قوم آخرون، إذا لم ينظر المرء في أسباب تلك الهزيمة وعوامل هذا النصر فلا يجدي مجرد الأخبار شيئًا، ولا تسقى منه الدروس والعبر. ولكنه إذا درس أسباب وعوامل كلّ من النصر والهزيمة قد يتسنّى له التسلّط على الوقائع والأحداث والتحكّم بها، فيتمكّن المهزوم أن يوفر لذاته أسباب النصر ويحوّل هزيمته تلك إلى انتصار. هذه أمثلة مبسطة وصغيرة من حياتنا.

القرآن يريد لنا أن نتأمّل في كلّ أحداث ووقائع الكون ونكتشف أسبابها وسرّها وحكمتها. وأن لا نكتفي بمجرّد القول أنّ الأمطار والثلوج في هذه السنة كانت قليلة، وفي السنة السابقة كانت أكثر، بل لا بدّ من التعمّق في النظر إلى ما فيها من حكمة. وأن لا تكون نظرتنا نظرة عابرة. يريد لنا فهم سرها، وإدراك سر الأسرار الكامن وراءها، ولنعي في آخر الأمر أنّ الكون كلّه في يد قدرة واحدة ومشيئة واحدة، وتلك القدرة هي سر الأسرار، أي أنّنا كلّما أزحنا حجابًا يظهر لنا من ورائه شيئًا، وإذا ما أزحناه نرى وراءه شيئًا آخر، والقرآن يدعونا إلى عدم الاكتفاء بهذا، بل يأمرنا بالسير قدمًا لنطّلع على وجود يد مقتدرة، ومشيئة وإرادة وعلم وحكمه تدير الكون بأكمله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأَوْلِي الأَبْصَارِ﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة