مقالات

هل يزول الدِّين؟‏ (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري
إن كان كلّ شي‏ء في هذا العالم في تحوّل دائم، حيث يبدأ الإنسان طفلاً حتّى يبلغ أشدّه ثمّ يهرم وينحدر نحو النهاية ثمّ يكون الزوال والفناء، وهكذا كلّ شي‏ء، أفلا يحقّ لنا أن نسأل عن الدِّين متى ينتهي ويزول؟
أو أنّ الدِّين من الثوابت في الحياة الّتي مهما تغيّرت الظروف والأحوال المحيطة بها وواجهت التحدّيات تبقى راسخة وثابتة؟
وما هي هذه الثوابت في الحياة والقوانين الطبيعيّة الّتي لا يعتريها الفناء وكيف نميّزها عن الأمور الفانية؟

معيار الخلود
إنّ الظاهرة الاجتماعيّة موجودة بين الناس وهي تعايشهم ما داموا متعلّقين بها، وإذا رغبوا عنها زالت وانتهت، ومن هنا نعرف السبب في خلود بعض الظواهر وموت بعضها الآخر، فالخالد منها ما كان يلبّي الرغبات الإنسانيّة وحاجاته أو هو وسيلة لإشباع تلك الرغبات الفطريّة والغريزيّة ..
ومن هنا قسّموا رغبات الإنسان إلى قسمين:
1- الرغبات الطبيعيّة
كحبّ الاطلاع والمعرفة، حبّ الجمال والشهرة، حبّ الكمال والقوّة، حبّ النسل والأسرة، وأمور كثيرة من هذا القبيل يسعى الإنسان إلى تحقيقها والوصول إليها رغم التعب والعناء الّذي قد ينتابه جرّاء ذلك، وهذه الأمور موجودة في الطبيعة البشريّة وعند كلّ الناس، مجبولة مع طبيعة الإنسان، ولذلك نرى البشر يسعون إلى تحقيق هذه الرغبات ولا يمكن التخلّي عنها ولا التخلّص منها، وتعتبر من الرغبات الأوّليّة الّتي يحتاج إليها في مسيرتهم الحياتيّة.
2- الرغبات غير الطبيعيّة (العادات)
وهي الحاجات الّتي اعتادوا على تحقيقها والاستفادة منها، كالإدمان على شرب الشاي والسجاير والخمر والمخدّرات وغيرها من الأمور الّتي لم تُخلق مع الإنسان في طبيعته، ولكنّه لأجل العادة أصبح يطالب بها بشدّة كما يطالب برغباته الطبيعيّة، وصارت هذه الأمور طبيعة ثانويّة للإنسان، لكن مع هذا كلّه يمكن التخلّص منها وتركها نهائيّاً وتربية نش‏ْء جديد لا يفكّر بكثير من هذه العادات، وهذا هو الفارق الأساس عن الرغبات الطبيعيّة، فإنّها لا يمكن التخلّص منها البتّة، وأوضح مثال على ذلك:
الاشتراكيّة وإبادة النظام العائليّ‏
فقد سعى الحكم الشيوعيّ لتطبيق فكرتين:
أ- الاشتراكيّة، لكنّه لم يستطع تحقيقها، لأنّ الدافع لتشكيل الأسرة دافع فطريّ طبيعيّ، وكلّ إنسان يرغب من أعماق فطرته أن يكون عنده زوجة خاصّة به حتّى يكون الولد الّذي تنجبه منه خاصّاً به، لأنّ الولد امتداد لوجوده ولولاه سيشعر الإنسان بالزوال.
ب- إبادة النظام العائليّ الاختصاصيّ, وهذه الفكرة لم يستطع تحقيقها أيضاً، لأنّ كلّ إنسان بدافع الرغبة الفطريّة يحبّ أن يعرف من هو أبوه وأمّه، ويعتبر ذلك جزءاً من سعادته في الحياة، ويحبّ معرفة أولاده من هم وكيف يكون مستقبلهم لأنّهم امتداد لوجوده.
ومن هنا نلاحظ أنّ أيّ ظاهرة تكون على خلاف الفطرة الطبيعيّة مصيرها إلى الزوال، وقد عبّر عن ذلك الفلاسفة بقاعدة فلسفيّة وهي "القسر لا يكون دائماً ولا غالباً"، بمعنى أنّ التيّار غير الطبيعيّ والّذي يمشي عكس كلّ التيّارات الطبيعيّة لا يمكن له أن يستمرّ، بينما يبقى في التيّارات الطبيعيّة قابليّة للاستمرار والبقاء.

تطبيق المعيار على الدِّين‏
وإذا أردنا أن نعرف أنّ الدِّين من الثوابت أو من المتغيّرات، علينا أن نطبّق عليه معيار الخلود، لنرى هل الدِّين بنفسه رغبة طبيعيِّة أو هو أفضل وسيلة لإشباع الرغبات والحاجات الطبيعيّة أو لا؟ وأمّا إضافة كلمة أفضل، فلأنّ طبيعة الإنسان ترغب بتحقيق حاجاتها بأفضل وسيلة، فلو وجدت وسيلة أفضل من الدِّين في تحقيق الحاجات الّتي يحقّقها الدِّين لاستغنت عنه والتجأ الإنسان إلى تلك الوسيلة، وأبرز مثال على ذلك هو استغناؤه عن استعمال المصباح الزيتيّ بمجرّد اختراع الكهرباء، حيث إنّ النور الّذي هو الغاية منهما يتحقّق من الكهرباء بشكل أفضل وأكمل. 
وأمّا الدِّين فهو يمتلك كلا الأمرين، فهو بنفسه رغبة فطريّة، وهو أيضاً الوسيلة الوحيدة والمثلى لإشباع الرغبات الفطريّة، وهذا ما سنثبته عبر هذه الصفحات.

الدِّين رغبة فطريّة
لقد خلق الله سبحانه الإنسان مفطوراً على الدِّين، فالدِّين أمرٌ فطريّ كما يصرّح بذلك القرآن الكريم:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.
وعندما يتحدّث أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عن الأنبياء عليهم السلام، يقول إنّهم بعثوا لأجل أن يذكّروا الناس بذلك الميثاق الّذي أخذوه على أنفسهم في بدء الخلقة، فهو ميثاق مجبول مع طينة الإنسان:
"فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته".
فالإسلام أوّل من كشف اللثام عن هذه الفكرة وأنّ الدِّين أمر فطريّ، ثمّ ظهرت الكثير من النظريّات حولها في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، وجاء في العصر الحديث من ينادي بها ويدعو إليها.

النظريّات المطروحة حول نشأت الدِّين‏
1- الدِّين وليد الخوف:
هذه النظريّة قد التزم بها بعض في هذا العصر مدّعياً أنّها نظريّة حديثة، علماً أنّ الحكيم اليوناني (لوكريتوس) قال إنّ أوّل آباء الآلهة هو إله الخوف، وهذه النظريّة تقول إنّ الإنسان نتيجة الخوف الّذي يشعر به من رعد وبرق وزلازل وبراكين ومخاوف كثيرة تُحدق به من كلّ جانب في الطبيعة، كلّ ذلك جعله يلتزم بالدِّين كمنقذ من هذه المخاوف كلّها.
2- الدِّين وليد الجهل:
إنّ الطبيعة البشريّة عندما تنظر إلى الظواهر الطبيعيّة والكونيّة تحاول تفسيرها والوصول إلى الأسباب والعلل الحاكمة عليها، وبما أنّ الإنسان لا سيّما في العصور الماضية لم يصل إلى أسبابها وعللها آمن بالدِّين ونسب كلّ الأمور الّتي يجهل أسبابها إلى ما وراء الطبيعة..
وعلى سبيل المثال عندما لم يكن يعرف أسباب نزول المطر وتكوّن الرياح والسحاب والرعد والبرق، نسب ذلك إلى ما وراء الطبيعة وقال: إنّ هناك إله للمطر فآمن به وقدّم له القرابين.
3- الدِّين وليد رغبة العدالة:
عندما لاحظ الإنسان ما يجري حوله من ظلم واضطهاد آمن بفكرة أنّ الدِّين تسكين للآلام النفسيّة الّتي يشعر بها، فإنّ الطبيعة البشريّة مفطورة على حبّ العدل والنظام وتتألمّ من الظلم والاضطهاد، والدِّين يعتبر مهدئاً ومسكّناً لكلّ ما يحصل للإنسان من ألم ناتج ممّا هو خلاف طبيعته.
وهناك مسألة واحدة تتّفق عليها هذه النظريّات الثلاث، وهي أنّ الدِّين حاجة مؤقّتة يمكن أن تزول مع تقدّم العلم وتطوّره وأمّا العالم فلا يكون متديّناً، ولذلك تدعو هذه النظريّات إلى تطوير العلم وتنميته فيكون العلم بديلاً عن الدِّين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة