قرآنيات

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (الشرح/1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (الشرح/2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (الشرح/3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (الشرح/4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (الشرح/5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (الشرح/6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (الشرح/7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح/8)﴾
إن سورة الإنشراح المباركة، التي تخاطب شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تتألف من ثلاثة أقسام. القسم الأول: تذكير وامتنان، تذكير بألطاف الله وعناياته بالرسول الكريم نفسه. والقسم الثاني: نوع من التعلم، أي العناية وبيان علة من العلل. والقسم الثالث: استنتاج النتيجة. في سورة (الضحى) التي تأتي قبل سورة الإنشراح ثلاث آيات هي في سياق واحد مع الآيات الأربع  لسورة الإنشراح. تلك الآيات الثلاث هي: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (الضحى/6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (الضحى/7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (الضحى/8)﴾، أي تذكر ما تفضل به الله عليك من قبل. ثم تأتي الآيات: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (الضحى/9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (الضحى/10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى/11)﴾.

فكأن آية ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ معطوفة على ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ لذلك فإن بعض المفسرين من الشيعة والسنة، يدعون أن سورة الإنشراح وسورة الضحى سورة واحدة، لا سورتان منفصلتان. بل لقد ورد في بعض الروايات أنه في الصلاة الواجبة تجب قراءة سورة كاملة بعد سورة الفاتحة. أهل السنة لا يشترطون هذا الشرط، ويكتفون بجزء من سورة، حتى وإن كانت آية واحدة. ومن المألوف أن تشاهدوا أئمة صلاة الجماعة في المسجد الحرام أو في مسجد النبي، كثيرا ما يبدأون من منتصف إحدى السور، ويقرأون سبع آيات أو ثماني أو عشراً، وينتهون بها. أما في فقه الشيعة فتجب قراءة سورة كاملة بعد الفاتحة. لذلك يحتاط الفقهاء في قراءة سورة الإنشراح وحدها؛ أو سورة الضحى وحدها. إلاّ أن هذا لا يرتبط بالتفسير ارتباطاً كبيراً.

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، إنني أوكد كلمة الشرح لكي نعرف معنى (شرح الصدر). لقد وردت هذه الكلمة في القرآن في صور مختلفة. من ذلك إن القرآن يقول عن موسى بن عمران إنه عندما بعث وقيل له: إنك رسول الله، اذهب إلى فرعون... كان أول طلب له من الله أن قال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (طه/25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (طه/26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (طه/27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (طه/28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (طه/29) هَارُونَ أَخِي (طه/30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (طه/31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (طه/32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (طه/33)﴾، ونقرأ في مكان آخر: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأنعام/125)﴾.
كانت الآية الأولى تتعلق بشخص الرسول، وآية ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ طلب موسى. فموسى يطلب من ربه أن يشرح له صدره. فشرح الصدر لا يختص بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأن موسى طلب الشيء نفسه من الله، واستجاب له الله، فيكون واضحاً أن شرح الصدر ليس مما يقتصر على الأنبياء، فكل من اهتدى إلى الإسلام، وكل من أشرق نور الإسلام على قلبه، يكون قد شرح صدره في الوقع، فما هو شرح الصدر هذا؟
لا بد لنا أولاً أن نعرف معنى الصدر، ومعنى الشرح. كلمة الصدر، من حيث أصلها، تدل على التجويف الصدري، ولكن هل هذا هو المعنى المقصود في آية ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟ أو في آية ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾؟ أو في آية ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأنعام/125)﴾؟ فهل يعني هذا إن عملاً مادياً يجري في الصدر؟ من البديهي إن الأمر ليس كذلك، بل هو القلب قد جيئ به هنا من باب الكناية لما يختص به القلب الحقيقي، وهو روح الإنسان نفسه. فالمقصود لا يعني أن الله يشرح قلب الإنسان، بصرف النظر عن معنى كلمة (شرح). إذن، فالصدر، مهما يكن، فالمقصود به شيئ روحي، شيئ معنوي، وليس شيئاً مادياً، جسمانياً.

والآن إلى معنى كلمة (شرح). يرى المفسرون عموماً أن (شرح الصدر) تعني "سعة الصدر.. وهذا تعبير وارد في اللغة العربية، وقد ورد في الحديث: "آية الرياسة سعة الصدر"، فمن الواضح إن المقصود بسعة الصدر هو اتساعه وكبره، ولكن من الواضح هنا أيضاً إن القصد ليس القول بأن من كان صدره واسعاً كبير الحجم يكون متسماً بسعة الصدر، أو إذا كان المرء نحيفاً صغير الجسم يكون محروماً من "آية الرياسة" سعة الصدر تعني كثير التحمل والصبر، فهي كناية عن قدرة المرء على التحمل والصبر. أي إذا أراد شخص أن يصبح رئيساً، كثير التعامل مع الناس، يدير شؤونهم، فعليه أن يكون واسع الصدر، قادراً على التحمل. فالشخص الذي لا يتسع صدره، السريع التأثر والتهيج، الثائر الأعصاب، لا يمكن أن يصبح مديراً ولا رئيساً، يدير جماعة من الناس، مهما يكن نوع هذه الإدارة، خذ مديراً لمدرسة، أو معلماً في الصف يدير التلاميذ، فإذا لم يتسم بسعة الصدر، لم يستطع إدارتهم. والرجل رب الأسرة إذا أراد أن يدير شؤون أسرته الداخلية، يلزمه أن يكون واسع الصدر. وكلما كان مجال إدارة الرجل أوسع، تطلب منه ذلك صدراً أوسع، وحلماً أكبر. وهذا هو على وجه العموم المعنى الذي يفسر به المفسرون هذه الكلمة، إذ يقولون إن الله قد منَّ بها على الرسول الكريم، فهو يذكره بهذه النعمة، نعمة الصبر الوافر، نعمة سعة الصدر، ولكن يبدو أن بين "شرح الصدر" و "سعة الصدر" بعض اختلاف، فحيثما يكون "شرح الصدر" تكون "سعة الصدر.. ولكن ما كل "سعة صدر" تشمل.

"شرح الصدر" لم يكن القرآن قاصراً عن قول (ألم نوسع لك صدرك)، ولكنه لم يقل، بل قال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ فما معنى الشرح؟ إنه هو هذا المعنى الدارج الآن، فقد يؤلف شخص ما كتاباً شديد التلخيص، بحيث لا يتمكن القارئ من إدراك كل الجزئيات التي يقصدها المؤلف، فينبري شخص آخر لشرح هذا الكتاب، كما لو كان يفتحه ويوسع ما بين معانيه، حتى إنه قد يشرح السطر الواحد في صفحة كاملة. وهذا عمل المتضلعين المتعمقين.
ألّف الخواجه نصير الدين الطوسي كتاباً بعنوان "تجريد الاعتقاد" يبحث في علم الكلام، ويتألف من قسمين: "تجريد المنطق" و"تجريد الاعتقاد"، والمؤلف رجل ضليع في نظريات علماء الكلام من جهة، وضليع كذلك في النظريات الفلسفية من جهة أخرى، وفضلًا عن تمكنه من هذين الموضوعين فإن له نظرته الخاصة أيضاً. يتناول المؤلف في كتابه هذا أمهات القضايا الفلسفية وقضايا الكلام، في عبارات مختصرة وجمل موجزة.
ثم جاء بعده تلميذه، العلامة الحلي، الذي لا يقل عنه نبوغاً -وإن كان هذا أقرب إلى الفقه من اقتراب أستاذه إلى الفلسفة والرياضيات والعلوم الأخرى -فشرح كتاب أستاذه تحت عنوان "كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد"، وهو لم يسهب كثيراً في الشرح، إلا أنه ألقى الضوء لأول مرة على مضامين الكتاب، فقد كان العلامة الحلي من العرب، والطوسي من الإيرانيين.

وأحياناً نرى بيتاً من الشعر يستغرق كتاباً لشرحه، ولكن لا كل الشعر، إذ ليس كل شاعر قادراً على قول بيت من الشعر يحتاج لشرحه إلى كتاب، إلا أن أمثال هؤلاء الشعراء موجودون، مثل مولوي وحافظ، فهؤلاء أناس واسعوا الاطلاع متمكنون من آداب زمانهم، يجمعون في أيديهم زمام القول والبيان. خذوا حافظاً مثلًا. لكَم لاحظتم أن العديد من العلماء الأعلام بحثوا في بيت واحد من شعره، وكتبوا المقالات الطوال يشرحونه بها. كذلك كتبت فصول حول بعض أشعار مولوي، ونشرت بحوث عنها، يشرحون فيها مقاصد الشاعر.
حيرت اَنْدَر حِيرت آمد در قِصَصْ
                                        بيهوشي خاصكان اندر أخص
عقل اول راند بر عقل دُوُمْ
                                        ماهي از كُندِه كردد، ني زدم
أو ربما قيل "ماهي از سر كندِه كردد، ني زدم"، فأيهما الصحيح؟ ثم ماهو المقصود؟ هذا كله شرح. إن القضية، لغوياً، تشبه عمل الجزار حين تناوله قطعة لحم ليشرّحها، وإذا به يُعمل سكينة فيها تقطيعاً وتشريحاً، ويجعل منها شرائح خفيفة، بحيث أنها تكاد تكفي لتغطية أرض الغرفة، أي أخذ شيئ مشدود ومضغوط ومتراص، لكي نفتحه ونشرحه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة