علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

لماذا يجب تعميق الفكر الإسلامي في مجتمعنا؟


السيد عباس نورالدين
إنّ وجود عمق فكري للمعارف الدينية أمرٌ ملحوظ عند كل من كان له توفيق التوغل في هذه المعارف مطالعةً ودراسةً وتفحّصًا. ولا حاجة للإتيان بأدلّة من السنّة أو القرآن على هذا الأمر المشهود بالتجربة؛ أمّا من يطالب بالدليل، فما علينا سوى أن نقدّمه له بواسطة عرض الشواهد الكثيرة التي لا تُحصى. وأغلب الظن أنّ الذين ينكرون وجود هذه الظاهرة العجيبة، كانوا يتسترون ويخفون جهلهم، أو أنّهم كانوا يحملون معنًى مغايرًا لما هو مُراد من العمق. 
ففي بعض الحالات قد يتم تصور التعمّق كحالة من التعقيد التي تغلّف ظواهر النصوص بتفسيرات متضاربة أو تجعلها صعبة الفهم على العوام (الأمر الذي يناقض الهدف من تنزيلها والنطق بها لتكون هداية للناس كافة).
ولعلّ ورود كلمة التعمّق في بعض الأحاديث الشريفة المروية عن أهل بيت العصمة والطهارة يأتي في هذا السياق: سياق الذم لا المدح، وإن تلقفها آخرون بعكس ذلك. ففي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى التَّعَمُّقِ، وَالتَّنَازُعِ، وَالزَّيْغِ، وَالشِّقَاقِ: فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ".[1] ولهذا، من المستبعد أن يكون المراد من الحديث المشهور ـ الوارد بشأن سر نزول سورة التوحيد أنّها كانت للمتعمّقين في آخر الزمان ـ هو مدح هؤلاء المتعمقين، بل المقصود ـ والله العالم ـ أنّ هذه السورة مع وجازتها وصغرها تدل على أنّ المتعمّق سوف يقف مذهولًا أمامها ويتهاوى.

وعلى أيّ حال، فإنّ التعمّق بمعنى التعقيد وعدم الاعتناء بالظواهر ونفي وجود طبقة من الفكر الديني مختصة بالعوام لهو أمرٌ منبوذ عند الجميع. لهذا، يبقى الكلام في تفسير ظاهرة التعمّق هو معناها الذي يتبادر إلى الأذهان في عصرنا هذا. والأهم من ذلك هو ما يرتبط بأهميتها ودورها المصيري في حفظ الدين والتدين في مجتمعاتنا.
والأظهر أنّ التعمّق عبارة عن الكشف عن مراتب متعددة للمعنى الظاهري الواحد، بحيث تكون كل مرتبة مقدمة لما هو أعمق منها، من دون أن يحصل التعارض بينهما؛ كما يُقال بالنسبة للألوان من حيث الصفاء والنقاء والمحوضة. فهذا أبيض وهذا أشد بياضًا منه، وهكذا. ولا يُقال إنّ المرتبة الأولى من البياض معارضة للثانية أو إنّ الثالثة تنفي الرابعة. ففي التعمّق يتم الكشف عن أبعاد أخرى، تظهر كلما أمعنا النظر، ولم تكن لتظهر لولا ذلك. وهكذا يصبح المعنى المكتشَف واضحًا جليًّا وبديهيًّا عند المكتشِف، لكنّه لن يكون كذلك لمن وقف عند مرتبة أدنى منه؛ بل ربما يقع مورد إنكار ورفض منه، بحيث يصبح مدعاة للمخالفة والمعارضة بين أصحاب المراتب، إن لم يؤمن من هو أدنى بوجود هذا الترتيب والأعماق.
يرجع وجود المراتب في الفكرة الدينية الواحدة إلى ظاهرة الوجود نفسه، والذي يكون في عين وحدته وبساطته ذا مراتب تشكيكية شدةً وضعفًا. فالحقائق الدينية ليست سوى تصوير دقيق للوجود بما يتناسب مع حركة الذهن البشري وقواه الإدراكية المختلفة. وهكذا يكون لدينا وجود ذو مراتب، وبيان ديني ذو مراتب، ونفس بشرية ذات مراتب. والكل يتناسب مع الكل؛ فكل مرتبة من النفس والإدراك تتناسب مع مرتبة من الوجود. والغاية من البيان الديني الأخذ بيد الإنسان لإدراك أعماق الوجود حتى الوصول إلى حقيقة الحقائق. 

إنّ عظمة الدين تكمن في قدرته على السير بأتباعه إلى أعلى وأعمق مراتب الوجود، الذي هو الله تعالى؛ هذا، وإن كان كنه ذاته سبحانه وتعالى فوق العمق والإدراك. لكن هذه المرتبة الإدراكية العليا المرضية عند الله تعالى هي التي ستتناسب مع كمال الإنسان وغاية خلقه؛ وفيها يبحر هذا الإنسان في عالم الإطلاق، ويستمر سيره التكامليّ من دون توقّف (ولعلّ هذا هو أحد أهم أسرار عالم الآخرة).
وهذه الميزة البيانية التي يتمتّع بها الدين الحق تتجلّى في قدرته على الأخذ بأيدي الناس من السطحية والسذاجة إلى تلك الأعماق، حيث يخاطبهم على قدر عقولهم في بيانٍ واحدٍ جامع؛ كما جاء في أحاديث أئمة الدين، الذين تحققوا بجميع معارفه وحقائقه، قولهم: "أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِم".[2] فالبيان الديني الواحد متضمّن لكل مراتب الحقيقة التي يشير إليها بالظاهر؛ وكلما أوغل المتبحر برفق، أدرك شيئًا آخر أشد قوة وعمقًا وإحاطة ودقة.
ويمكن تشبيه الظواهر البيانية بالأشجار وأعماقها بالجذور التي تتلاقى فيما بينها تحت التراب لتشكل تلك المنظومة المتشابكة المحكمة التي يفسر بعضُها بعضًا. فقوة الدين الكبرى تتمثل في الإحكام والترابط والانسجام، كما هو حال عالم الخلق {ما تَرى‏ في‏ خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُت‏}.[3]
ولا ينبغي أن نستهين بعنصر القوة هذا، لأنّه أقوى وأهم ما في المنظومات الفكرية؛ وإنّما تتهاوى أي منظومة فكرية أو رؤية كونية حين تظهر التناقضات بين أفكارها وتتعارض مبادئها فيما بينها. وإنّما يظهر ذلك في الحقيقة على أثر التعمق لا غير.
والتكاذب الذي يظهر على أثر التعارض بين هذه الفكرة وتلك هو الذي يؤدي إلى التهافت، والتهافت يؤدي إلى التهاوي. في حين أنّ قوة المنظومة الدينية الإسلامية الأصيلة تزداد تألقًا كلما تعمقنا فيها وسبرنا أغوارها. ولو لم يكن للتعمق في الدين سوى هذا الأثر لكفى في تحصين ديانة الناس وعقائدهم والتزامهم.

من الصعب أن يحافظ المتدين على إيمانه من دون تعمّق، خصوصًا في بيئة الشبهات والمغالطات والتساؤلات العميقة التي تميّز عصرنا. وأغلب الظن أنّ الذين يلتزمون الظواهر ويتشددون فيها، يصبحون على مدى الأيام فارغين في قلوبهم، وإن كثرت أعمالهم. فلعلّها عادة اعتادوها ويشق عليهم تركها.
ففي التوحيد الذي هو ركن الإسلام الأول، نجد المراتب الكلية للسير العقلي والسير القلبي. 
وفي الإخلاص الذي هو عماد النجاة وحقيقة القرب ذكروا ثماني مراتب كلية، بحيث إنّك لو عرضت المرتبة الثامنة الأخيرة على من لم يدرك من الإخلاص سوى مرتبته الأولى (التي هي عبارة عن تصفية العمل من شائبة طلب الدنيا) لرفضها وأنكرها؛ هذا بالرغم من أنّ المرتبة الأخيرة هي التي تعبّر عن حقيقة الإخلاص المرضي عند الله تعالى. 
وفي الإيمان مراتب عشر، كما جاء في الحديث، حيث يصبح المؤمنون بسبب ذلك درجات عند الله. لكن الإيمان الأعلى والأعمق هو الذي ينجي في مواقف العرض على الله يوم القيامة. وإنّما كان التدرج وسيلة لتربية السالكين وتكميلهم حتى يصبحوا لائقين لمقام القرب والوصال.
إنّ تعميق الفكر الديني في المجتمع يمثل اليوم أحد أهم الأمور التي نحتاج إليها لمواجهة كل ظواهر التهتك والعبثية والضياع، حيث تنعدم الحدود بين الحقيقة والوهم والخير والشر والحسن والقبح؛ بل يتحول القبح إلى حسن والحسن إلى قبح ويتبجح الأشرار بشرّهم وتتم السخرية من الحقيقة.
العمق الفكري هو الذي يمنح الإنسان ميزة التفوق التي هي أساس الصمود بوجه كل تلك الأعاصير ويضفي على حركته صفة العلو التي يحتاج إليها ليمضي قدمًا في تبليغ الدين ونشره؛ {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين‏}.[4] وفي ظل العمق الفكري تتهاوى إغراءات الفساد وجاذبية الإباحية وتظهر الفوارق الدقيقة بين الحسن والقبح في القضايا التي يسهل اختلاطهما. ولأجل ذلك، وجب علينا أن نضع أصحاب العمق الديني في الخطوط الأمامية لهذه المواجهة الحضارية.
 ــــــــــ
[1]. نهج البلاغة، ص 473 ــ 474.
[2]. عوالي اللئالي، ج4، ص 120.
[3]. سورة الملك، الآية 3.
[4]. سورة آل عمران، الآية 139.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة