قرآنيات

الوقوف عند ظاهر القرآن هلاك للدّين

 

الإمام الخميني "قدس سره"
قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين قدّس سرّه  في (الأسفار): «اعلم أيّها المسكين أنّ هذا القرآن أنزل من الحقّ إلى الخلق مع ألف حجاب، لأجل ضعفاء عيون القلوب وأخافيش أبصار البصائر. فلو فُرض أنّ باء «بسم الله» مع عظمته التي كانت له في اللوح نزل إلى العرش لَذاب واضمحلّ، فكيف إلى السماء الدنيا؟ وفي قوله تعالى: ﴿لَوْ أنْزَلْنا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعا مِنْ خَشْيَةِ الله..﴾ الحشر:21، إشارة إلى هذا المعنى».
وهذا الكلام صادر عن معدن العلم والمعرفة، مأخوذ من مشكاة الوحي والنبوّة.
وأنا أقول: إنّ الكتاب التكويني الإلهي والقرآن الناطق الربّاني أيضاً نازلٌ من عالَم الغيب والخزينة المكنونة الإلهية، مع سبعين ألف حجاب لحمل هذا الكتاب التدويني الإلهي، وخلاص النفوس المنكوسة المسجونة في سجن الطبيعة وجهنّمها، وهداية غرباء هذه الديار الموحشة إلى أوطانها، وإلّا فإنْ تجلّى هذا الكتاب المقدّس والمكتوب السبحانيّ الأقدس بإشارة من إشاراته وغمزة من غمزاته برفع بعض الحجب النورية للسماوات والأرضين لاحترقت أركانُها، أو للملائكة المقرّبين لاندكّت إنّيّاتها.
فهذا الكتاب التكويني الإلهي وأولياؤه، الذين كلّهم كتب سماوية، نازلون من لدن حكيم عليم، وحاملون للقرآن التدويني. ولم يكن أحدٌ حاملاً له بظاهره وباطنه إلّا هؤلاء الأولياء المرضيّون، كما ورد من طريقهم عليهم السلام.
فمن طريق (الكافي) عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «ما يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلَّه، ظاهره وباطنه، غير الأوصياء».
ومن طريق (الكافي) أيضاً عن جابر قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: «ما ادّعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلَّه كما أُنزل إلّا كذّاب. وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلّا عليّ بن أبي طالب والأئمّة من بعده عليهم السلام».
ومنه أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «وعندنا -والله- علمُ الكتاب كلَّه».


 كلمة نورية
اعلم أنّه كما أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطوناً سبعة باعتبار، وسبعين بطناً بوجه، لا يعلمها إلّا الله والراسخون في العلم، ولا يمسّها إلّا المطهّرون من الأحداث المعنوية، والأخلاق الرذيلة السيئة، والمتحلَّون بالفضائل العلمية والعملية، وكلّ من كان تنزّهه وتقدّسه أكثر كان تجلّي القرآن له أكثر، وحظَّه من حقائقه أوفر، كذلك الكتب التكوينية الإلهية الأنفسية والآفاقية .. فإنّ لها بطونا سبعة أو سبعين لا يعلم تأويلها وتفسيرها إلّا المنزّهون عن أرجاس عالَم الطبع وأحداثها، ولا يمسّها إلّا المطهّرون، فإنّها أيضاً نازلة من الربّ الرحيم.
فجاهد أيّها المسكين في سبيل ربّك، وطهّر قلبك، واخرج من حِيطة الشيطان، وارقَ واقرأ  كتاب ربّك، ورتّله ترتيلاً، ولا تقفْ عند قشره، ولا تتوهّمنّ أنّ الكتاب السماويّ والقرآن النازل الربّاني لا يكون إلّا هذا القشر والصورة، فإنّ الوقوف عند الصورة، والعكوف على عالم الظاهر وعدم التجاوز إلى اللبّ والباطن اخترامٌ وهلاك، وأصل أصول الجهالات، وأسّ أساس إنكار النبوّات والولايات.
فإنّ أول مَن وقف عند الظاهر وعَمِيَ قلبه عن حظِّ الباطن هو الشيطان اللّعين، حيث نظر إلى ظاهر آدم عليه السلام، فاشتبه عليه الأمرُ وقال: «خلقتني من نار وخلقته من طين، وأنا خير منه، فإنّ النار خير من الطين»! ولم يتفطّن إلى أنّ جهله بباطن آدم عليه السلام، والنظر إلى ظاهره فحسب، بلا نظرٍ إلى مقام نورانيّته وروحانيّته خروجٌ عن مذهب البرهان، ويجعل قياسه (مغلوطاً) عليلاً، كما ورد في اخبار أهل البيت عليهم السلام...
ومن هذا الخطأ، والغلط والنظرِ إلى الظاهر وسدِّ أبواب الباطن، إنكارُ الناس للأنبياء والمرسلين، بملاحظة أنهم، عليهم السلام، يمشون في الأسواق ويأكلون ويشربون، كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿قالُوا ما أَنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا وما أَنزَلَ الرَّحمنُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلا تَكْذِبُون﴾.


فلا يذهبنّ بنور عقلك الشيطان حتّى تقعَ في الخذلان، فإنّ الشيطان يُوسوس في صدور الناس بخَلط الحقّ بالباطل والصّحيح بالسّقيم، فربّما يخرجك من الطريق المستقيم بظاهرٍ صحيح وباطنٍ سَقيم، فيقول: إن العلوم الظاهرية والأخْذ بظاهر الكُتب السماوية ليس بشيء وهو خروجٌ عن الحقّ! والعباراتُ القالبية والمناسك الصوريّة مجعولة للعوامّ، الذين هم كالأنعام، وهم أهل الصورة وأصحاب القشور.
وأما أصحابُ القلوبِ والمعارف، وأهلُ الأسرار والعوارف؛ فليس لهم إلا الأذكار القلبيّة والخواطر السرّية، التي هي بواطن المناسك ونهايتها وروح العبادات وغايتها!
فاستَعِذْ بالله تعالى منه، وقل له: «أيّها اللعين، هذه كلمة حقّ تريد بها الباطل، فإنّ الظاهر المطعون هو الظاهر المنفصلُ عن الباطن، والصورة المنعزلة عن المعنى، فإنه ليس بكتابٍ ولا قرآن. وأما الصورة المتّصلة بالمعنى، والعلَن الموصول بالسرّ، فهو المتّبعُ على لسان الله ورسوله وأوليائه عليهم السلام، كيف وعلمُ ظواهر الكتاب والسنّة من أجَلّ العلوم قدْراً وأرفعها منزلة، وهو أساسُ الأعمال الظاهرية والتكاليف الإلهية، والنواميس الشرعية، والشرائع الإلهية والحكمة العمَلية، التي هي الطريقُ المستقيم إلى الأسرار الربوبية والأنوار الغَيبية والتجلّيات الإلهية، ولولا الظاهرُ لما وصلَ سالكٌ إلى كماله ولا مجاهدٌ إلى مآله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة