مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

هل أنت فقير حقًّا؟

 

السيد عباس نورالدين
تلعب تصوّراتنا عن الغنى والفقر دورًا مهمًّا في شعورنا بهما، بل حتى في تحصيلهما. الشعور بالغنى أمرٌ جميل ومريح وممتع، والشعور بالفقر أمرٌ صعب ومؤلم وشاق.. فقد يمتلك أحدنا الكثير من الأشياء، لكنّه لا يستفيد منها ولا يتمتّع بها لأنّه لا يدرك أنّه يمتلكها! وغالبًا ما يحصر الناس تصوّرهم للغنى في إطار كمية الأموال التي يمتلكونها، في حين أنّه قد تتوافر لهم الكثير من الإمكانات غير المالية التي يمكن أن تحقّق لهم ما يريدون؛ هذا مع عدم الحاجة إلى أي صكوك للملكية.. فمثلًا، قد تتوفّر لنا وسيلة للنقل من مكانٍ إلى مكان أينما احتجنا إلى ذلك من دون أن يكون لدينا أي سيارة مسجّلة باسمنا. وقد يكون بالإمكان الحصول على أي مقدار من المال لمشاريع مهمّة ومنتجة، وفي أي وقت نريد، لكننا لا نحصل على ذلك لأننا ربما لا نحسن تقديم هذه المشاريع وعرضها على المستثمرين المناسبين؛ هذا في الوقت الذي ننعي ونشكو من سوء حظّنا وقلّة حظ المبدعين في البلد. 
غالبًا ما تكون أموالنا بأيدي أناس آخرين لا يستعملونها!! ولا أعني هنا أنّ هؤلاء قد سرقونا؛ وإنّما تكون وسيلة تأمين حاجاتنا ورغباتنا المختلفة بواسطتهم؛ وذلك عبر ألف طريقة وطريقة. ولعلّك تستفيق ذات يوم على شخص ثريّ يدقّ باب بيتك ويعرض عليك شراكة في مشروعٍ كبير تكون أنت المساهم فيه بعملك وإدارتك ويكون هو المساهم بكل ما يتطلّبه من مال. فها قد أصبحت بين عشية وضحاها متصرّفًا بعشرات آلاف الدنانير التي لم تكن تمتلك منها درهمًا واحدًا! وإنّما كانت ثروتك الكبرى بين يديك وهي سمعتك الطيّبة وخبراتك التي اكتسبتها على مرّ السنين، وحُسن تدبيرك وكفاءتك التي شاعت في الآفاق.


بالنسبة للمؤمن الواقعيّ، كل هذا العالم بما فيه من إمكانات وثروات هو في قبضته! بل إنّ له خزائن السماوات والأرض معًا؛ وكيف لا يكون كذلك من اتّصل بالله تعالى والكلام الإلهيّ يقول: "عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشي كن فيكون"؛ وقد وعد الله عباده المخلصين أن يستجيب دعاءهم، ويحقّق طلباتهم متى ما شاؤوا؛ وإنّما يفعل لهم ذلك حين يكون الأمر لمصلحتهم الكبرى وسعادتهم الأبدية، وهم يعلمون أنّه ما من شيء يبطؤ عنهم إلا لخيرهم وصلاحهم، لعلمه تعالى بعاقبة الأمور.. فكلّ مؤمن في هذه الدنيا هو في الواقع أغنى من قارون بما لا يُقاس؛ والله تعالى قد منحه مفاتيح جميع خزائنه، فإن اقتضت الحكمة أن يتصرّف بأي شيء منها، رزقه الله ذلك بأسرع من طرفة العين.
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى في هذه القضية بالذات؛ فكلّنا قد سمعنا ما حدث حين هبط إليه جبرائيل الأمين وبلّغه سلام ربّ العالمين وهو يقول له أن يدعو بما يشاء، فإنّ الله سيجعل له جبل أبي قبيس ذهبًا ولؤلؤًا؛ لكنّ رسول الله لم يكترث بذلك، واختار الكفاف والمواساة والاحتياج إلى الله، وقال: "أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا؛ فَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ وَإِذَا جُعْتُ دَعَوْتُكَ وَذَكَرْتُكَ".[1]
إنّ المؤمن أكرم عند الله تعالى من الكعبة التي هي بيته المعظّم، وحرمته أشد من حرمتها بسبعين مرّة ـ كما جاء في أحاديث العصمة؛ فلو كان الغنى المادّي كرامة للإنسان لما قدر الله عليه رزقه أبدًا، ولو كان الفقر المادّي إهانة له لصبّ الله عليه مال الدنيا صبًّا.
أجل إنّ الفقر الذي يشغل الإنسان عن أداء وظائفه في هذه الحياة لهو أمرٌ سلبيّ، ينبغي أن نستعيذ منه دومًا؛ كما ورد عن الإمام زين العابدين(ع): "وَارْزُقْنِي مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ، فَلاَ أَشْتَغِلَ عَنْ عِبَادَتِكَ بِالطَّلَبِ، وَلاَ أَحْتَمِلَ إِصْرَ تَبِعَاتِ الْمَكْسَبِ". كما أنّ السعة قد تكون وسيلة مهمّة لأداء العديد من الوظائف والمسؤوليات الدينية، ولهذا نطلبها من الله دومًا. لكنّنا ننظر إلى هذا وذاك من زاوية الاشتغال بالمهمّات الأساسية التي خلقنا الله لأجلها؛ ولا نطلب السّعة والمال والغنى والدعة لأجل راحة الدنيا والركون إليها والتفاخر على أهلها وصرف الجهد لها وتضييع العمر في حفظ مالها وحراسته. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ؛ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ".[2]‏ لهذا كان الغنى الواقعيّ في الكفاف، وفي ذلك المستوى الذي يساهم في زيادة قدرتنا على السير إلى الله وعلى سلوك طريق الآخرة ونصرة دين الله وخدمة المسلمين وإعلاء شأن مجتمعهم وأمّتهم.. وفي هذه الحالات لا تحديد للغنى بأيّ مقدار، لأنّ ذلك يكون بحسب تلك الأعمال والمشاريع والمتطلّبات.


الغنى الحقيقيّ هو الغنى الروحيّ، لأنّ هويّتنا وحقيقتنا كبشر هي الروح التي يُفترض أن ترتقي وتزداد وتتألّق، وليست أبداننا سوى مراكب سفرنا المعنويّ هذا؛ فإن تأمّنت حاجتها الضرورية حملتنا حتى نبلغ غايتنا. وإنّما أُهبطنا إلى هذه الأرض من أجل اكتساب ذلك الغنى الواقعيّ، الذي لا يتحقّق إلا في ظلّ الاتّصال المتين بالغنيّ المطلق سبحانه وتعالى. فكل ما زاد عن حاجة الأبدان، ولم يكن في خدمة هذا الهدف المقدّس، فسوف يكون وباله على صاحبه شديدًا في الدنيا، وأشدّ في الآخرة.
حين نطلب الغنى وفق معايير أهل الدنيا ورغبةً في تقليدهم، فإنّنا نكون قد ابتعدنا عن معنى الإنسانية ومغزى الحياة بُعد المشرقين والمغربين. ولهذا، فإنّ أوّل خطوة على طريق الغنى الحقيقيّ هي التي تتجلّى في الانفصال التامّ عن أهل الدنيا في عيشهم ونمط حياتهم. فمن سلك طريق طلب الدنيا لن يزيده سيره هذا عن الغاية إلا بعدًا؛ قال الله تعالى: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ}،[3] ولأجل ذلك نحتاج إلى أن نبني حياتنا على رؤية سليمة نميّز فيها كل ما يأخذنا نحو الدنيا ويبعدنا عن الآخرة؛ لأنّنا قومٌ عاقلون نؤمن بالعاقبة والمصير والخلود والجنة والنار، ونعلم بأنّ كل مصائب الدنيا لا تساوي مقدار ذرّة من عذابات الآخرة. 
إنّ الاتّجاه الصحيح نحو الغنى الواقعيّ يتطلّب منّا أن نميّز بين الحاجات الواقعية والرغبات الوهمية؛ لأنّ كل إشباع لتلك الميول الواهمة لن يزيدنا سوى فقرًا. ولأجل ذلك جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "مثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشًا حَتَّى يَقْتُلَهُ".[4] والغنيّ في الدنيا هو الذي تتأمّن حاجاته الأساسية فيها ويكون له منها مركب العروج إلى الله والسفر السريع إلى الآخرة. أمّا ما زاد عن ذلك فليس سوى الضياع والعبث والضلال.
يجب أن نتفكّر كثيرًا بشأن الغنى الواقعيّ والغنى الوهميّ. خصوصًا إذا كنّا قد نشأنا في بيئة دنيوية خاضعة لأهواء أهل الدنيا ونمط عيشهم وأعرافهم. ففي مثل هذه الحالة، سنكون بحاجة  إلى التفكّر في أدق تفاصيل العيش ومتطلّباته؛ لأنّ أهل الدنيا غالبًا ما يخلطون بين الضروريّ وغير الضروريّ، ويكثرون من القيل والقال والأماني والشكاوى؛ فمن لم يكن ذا بصيرة يضيع في لجّة كلامهم ويغرق في معسول أقوالهم. 
إنّ عشر شكاوى بشأن انقطاع الكهرباء في أسبوعٍ واحد كفيلة بجعل الكهرباء تبدو في عينك كحاجة لا يمكن العيش بدونها. وإنّ ثلاث دعايات حول الهاتف الذكيّ تكفي لتجعل الحياة معه تبدو كجنّة نعيم. 
ـــــــ
[1]. الكافي، ج8، ص 131.
[2]. نهج البلاغة، ص 496.
[3]. سورة الشورى، الآية 20.
[4]. الكافي، ج2، ص 136.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة