مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

إنّ الرّزق ليطلب الرّجل كما يطلُبه آجله

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن ابن عمر قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):
«ليس شيء يُباعدكُم من النّار إلاّ وقد ذكرتُه لكم ولا شيء يُقرّبكُم من الجنّة إلاّ وقد دللتكم عليه إنّ روحَ القُدس نفثَ في روعي أنّهُ لن يموت عبدٌ منكُم حتّى يستكمل رزقَهُ، فاجملوا في الطّلب فلا يحملنّكم استبطاءُ الرّزقِ على أنْ تطلُبُوا شيئاً من فضل اللهِ بمعصيته، فإنّه لن يُنال ما عند اللهِ إلاّ بطاعته ألا وإنّ لكلّ امرء رزقاً هو يأتيه لا محالة، فمن رضيَ بهِ بُورِك له فيه ووسِعَهُ، ومَن لم يرض بهِ لَم يُبارك له فيه ولم يسعهُ، إنّ الرّزق ليطلب الرّجل كما يطلُبه آجله»(1).
الشرح:
 قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): إني حذرتكم من كلّ شيء في الأقوال والأفعال يبعدكم عن الجنّة، ولا شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعدكم عن النّار إلاّ وأمرتكم به، وفائدة هذا الحديث هي أن نسعى دوماً لتطبيق أحكام الإسلام ومن هنا نفترق عن أهل السنة الذين يعتقدون أنّه عند عدم وجود النص فلا يوجد هناك حكم، ومن هنا أعطى أهل السنة الحق للفقهاء أن يضعوا القانون، وأن يعملوا بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، فمثل هذا المذهب الذي يكون نصفه من الله والمعصوم ونصفهُ الآخر من الناس يختلف اختلافاً كثيراً مع مذهب كلّه من قبل الله والمعصومين، وظاهر آية (اليوم أكملت لكم دينكم)(2) يشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأن الدين عبارة عن مجموعة من العقائد والقوانين والقيم الأخلاقية، والحديث المذكور يرشدنا بعنوان أننا مجتهدون إلى التعامل مع النصوص من موقع الاستنباط لا من موقع التشريع، ويعطيني هذا التصور بصفتي مجتهد أستنبط ولا أشرع.
وهنا لابدّ من الإشارة لعدة أمور:
١ ـ بعض الأفراد السذّج والاتكاليين يتصورون أن بعض النصوص من قبل قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها)(3)
أو الروايات التي تقول بأن الرزق معينٌ ومقدر، هذه النصوص توحي إلى أنه ليس من الضروري أن يسعى الإنسان كثيراً لأجل معاشه، لأن الرزق مقدرٌ يصل للإنسان على كل حال، (ولا يبقى فمٌ مفتوح بدون طعام)، فمثل هؤلاء الأفراد الجهال الذين تكون معلوماتهم عن الدين متدنية وضعيفة جداً، يعطون ذريعة للعدو أن يقول عن الدين بأنه عامل مخدّر وهو سبب الركود الاقتصادي وأفول الحركة الفاعلة في الحياة، وتجميد الإنسان في نطاق الإذعان لأنواع الحرمان، بحجة أن الموهبة الفلانية لم تكن من نصيبي فهي ليست من رزقي، وإذا كانت من نصيبي فسوف تصل إليّ حتماً، هؤلاء يتيحون فرصة جيدة للمستعمرين لنهب خيرات الشعوب المستضعفة بصورة أكبر وسلبهم أبسط لوازم المعيشة، في حين أن اطلاعة مختصرة للقرآن والأحاديث الشريفة تكفي لتحصيل هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام حصر أي نفع مادي ومعنوي للإنسان في العمل والسعي الجاد حتى صار هذا شعاراً قرآنياً (ليس للإنسان إلاّ ما سعى)، ولذا ترى أئمة الدين ومن أجل أن يكونوا مثلًا أعلى في الحياة تراهم في كثير من الأحيان يتحركون على مستوى العمل والكسب ويمارسون أعمالاً شاقة وثقيلة.
وكذلك الأنبياء لم يكونوا مستثنين من هذا القانون; فقد مارسوا أعمالًا مختلفة ابتداءً من الرعي إلى الخياطة وحياكة الدروع والزراعة، ولم يكونوا يستنكفون من ممارسة العمل. فاذا كان مفهوم ضمان الرزق من الله هو أن نجلس في البيت وننتظر وصول الرزق إلينا، فما كان ينبغي على الأنبياء والأئمة أن يجدّوا في السعي للحصول على الرزق وهم أعلم الناس بالدين ومفاهيمهُ.
وهكذا نقول: إن رزق كل واحد مقدر وثابت ولكنه مشروط بالعمل وبالسعي، وما لم يتحقق هذا الشرط لا يتحقق المشروط، وهذا المعنى هو بالضبط مثل قولنا «لكل شخص أجل ومقدار مقدر من العمر» ولكن من المسلم أن هذا لا يعني أن يبقى حياً لذلك الأجل المعين حتى لو انتحر أو تناول الأطعمة الضارة، فمفهومه أن الجسم له استعداد معين للبقاء والعيش الى مدة معينة ولكنه مشروط برعاية الأمور الصحيحة واجتناب موارد الخطر وإبعاد النفس عن كل ما يؤدي إلى الموت. وهناك مسألة مهمة وهي أن الآيات والروايات التي تحدثت عن تعيين الأجل هي في الحقيقة نوع أرشاد وتوجيه لعبيد الدنيا الذين يسلكون كل درب لأجل تأمين معيشتهم ويرتكبون أنواع الظلم والجرائم بدافع من توهم الموت جوعاً بدون استخدام هذه الأساليب.
نعم، كيف يعقل أن الله تعالى الذي خلق الإنسان وأعطاه القدرة على الحياة وممارسة كل أنواع الأعمال، أن يضعه في زاوية النسيان؟، فهل يسمح العقل والإيمان أن ينحدر الإنسان في هاوية الظلم والجريمة والتجاوز على حق الغير بحجة احتمال عدم تحصيل الرزق؟ بالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل للإنسان بنفسها سواءً تحرك نحوها أم لا، فهل يمكن إنكار وصول نور الشمس بدون جهد منا؟ وهل يمكن إنكار أنّ العقل الذي هو من أهم المواهب الإلهية للإنسان لم يكن بسعينا!؟

 

وكذلك لا يمكن انكار أن الإنسان أحياناً لا يسعى للحصول على شيء ما، ولكن ترى ذلك الشيء يصل إليه من جهة الاتفاق والصدفة، ولكن مثل هذِهِ الأحداث وإن كانت تبدو في نظرنا من الصدفة إلاّ أنها تخضع لنظام الخلقة وتجري وفق حساب معين. بالطبع إن مثل هذِهِ الأرزاق تختلف عن الأرزاق المرتبطة بالسعي، فمثل هذِهِ المواهب تسمى الرزق من حيث لا يحتسب، أو بتعبير اصح، المواهب التي تحصل لنا بلطف الله من دون سعي أو جهد، ونفس هذِهِ المواهب إن لم نبذل عناية في الحفاظ عليها بشكل صحيح فسوف تخرج من أيدينا أيضاً، أو تبقى من دون أي أثر ونفع.
وقد ورد في الحديث المعروف عن الإمام علي(عليه السلام) في الكتاب ٣١ من نهج البلاغة في وصيته لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) يقول: «واعلم يا بني أنّ الرزق رزقان: رزق تطلبهُ ورزق يطلبك»، فهو يشير إلى هذه الحقيقة.
وعلى أي حال فالأصل في مفاهيم الإسلام وتعاليمهُ هو أننا لأجل أن نعيش حياة أفضل على الصعيد المادي والمعنوي، يجب علينا السعي أكثر، والتهرب من العمل بحجّة أن الرزق مقدّر إنّما هو اشتباه محض (انظر التفسير الامثل ج ٩ ص ٢٠).
٢ ـ الدرس الذي نتعلمه من هذا الحديث هو أن يعلم طلاب العلم بأن الله قد تكفل برزق أهل العلم لأن أهل العلم إذا اهتموا بجمع الأموال فسوف يكونون أمام خطرين:
أ: إنّهم من المفترض أن يكونوا المثل الأعلى للناس، فإذا تحركوا في طلب الدنيا فليس بإمكانهم أن يكونوا قدوة للناس.
ب ـ إنّ المال الذي يجمعه سائر الناس (من غير أهل العلم) لا يوجه ضربة للدين، لكن إذا اشتغل أهل العلم بجمع المال بشتى الطرق سواءً كان بحق، أو بغير حق فسوف يضر بالدين والمذهب، وهذا بحق يبعث على الأسف.
ــــــ
(1) بحار الأنوار، ج٧٧، ص١٨٥.
(2) سورة المائدة، الآية ٣.
(3) سورة هود، الآية ٦.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة