علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

الحرية وحدودها (1)

 

الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
1ـ النظرية السياسية الإسلامية وشبهة تقييد الحرية
نظراً إلى أن المجتمع الإسلامي لابد من إدارته على أساس القوانين والأحكام الإسلامية، والقوانين المتغيّرة التي تُسَنُّ على أساس القيم الإسلامية، ويجب أن يكون النظام الحكومي متطابقاً مع القوانين الإسلامية، ويجب أن لا يتمادى منفّذو القانون إلى ما هو أبعد من حدود أحكام الإسلام وتعالميه، وكذلك أبناء الشعب ملزمون بالعمل بأحكام الإسلام. فإنه هنا يتبادر إلى الأذهان سؤال حساس وهو: هل تنسجم هذه النظرية مع حريّة الإنسان؟ فالإنسان يجب أن يكون حراً في وضع قوانين حياته وفي تنفيذها، وإذا قلنا أنه لابد أن يتحرك في هذا الإطار وأن ينفِّذ هذه القوانين، فهذا في الحقيقة يتعارض مع حرية الإنسان التي تعتبر من حقوقه البديهية.
قبل الرد على هذا السؤال؛ لابد من التمهيد للجواب بمقدمة، وهي مقدمة تستخدم أيضاً في البحوث الأخرى، وينبغي الاهتمام بها بدقّة. نحن عندما نتعامل مع المفاهيم العينية والانضمامية فنحن لا نواجه أية مشكلة في التفاهم. نذكر مثلاً أننا في العلوم الطبيعية نتعامل مع مفاهيم عينية، فعندما نقول: ماء، وحركة، وكهرباء، وفي المجال الطبي عندما نقول: عين، وإذن، ويد، ورجل، ومعدة، ورئة، وكبد، فإنه يسهل التفاهم حول هذه الأمور؛ لأن الجميع يعرفون المعنى المراد منها. ومن المحتمل أيضاً حصول حالات غامضة كأن يكون الماء مخلوطاً بالطين مثلاً فهل يبقى تحت مصداق الماء أم لا؟ ولكن مثل هذه الحالات نادرة. وغالباً لا تعترضنا مشكلة في التفاهم عندما نتعامل مع المفاهيم العينية والانضمامية.
ولكن الصعوبة تبرز حينما نتعامل مع المفاهيم الانتزاعية كالمفاهيم الفلسفية، والمفاهيم التي تستخدم في العلوم الإنسانية كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والحقوق، والعلوم السياسية، وما شابه ذلك. فربّما يكون للمفهوم الواحد عدّة تعريفات مختلفة. وهذه الاختلافات في تعريف المفهوم الواحد تنجم عنها مشاكل كثيرة في التفاهم. وعندما تحتدم النقاشات حول مثل هذه المفاهيم لا يتوصل الأفراد عادة إلى نتيجة قطعية وواضحة.


نذكر مثلاً إننا جميعاً على معرفة بمفهوم (الثقافة) الذي يستخدم في النظام التعليمي بكثرة وعلى مستويات شتى، وكذلك يأتي ذكره كثيراً في الأشعار والآداب والحوارات اليومية. ومع ذلك فلو سألت أحداً: ما معنى الثقافة؟ لعلك لا تكاد تجد واحداً بالألف يعطيك تعريفاً صحيحاً للثقافة. وحتى المتخصصون الذين أرادوا وضع تعريف لهذا المصطلح يعتقدون بأنَّ له من التعاريف ما يتراوح بين خمسين إلى خمسمائة تعريف؟
فإذا كان الغموض يلف تعريف هذا المصطلح إلى هذا الحد، فمن الطبيعي أن هذا الغموض وتباين الرؤى يُلقي بظلاله على القضايا والهواجس الاجتماعية.
وبناء على ذلك عندما يدور الحديث عن التنمية الثقافية، يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال: ما هي التنمية الثقافية؟ وما هي مصاديقها؟ وكيف يمكن تنمية الثقافة وعلى أي نحو؟ ولو أن مجلس الشورى الإسلامي صادق على ميزانية للتنمية الثقافية، من غير أن تُحدّد لها مصاديق واضحة، ولا موارد إنفاق محددة للتنمية الثقافية، فكل وزارة تضع تعريفاً معيناً لهذا المصطلح الانتزاعي، وتضع لها مصاديق خاصة ترمي إليها، وتتوفر عندئذ الأرضية أمام النفعيين لسوء الاستغلال.


2ـ اختلاف الرؤية في مفهوم الحرية
إن ما سقته من كلام عن المصطلحات الانتزاعية وعدم وجود مصاديق محدّدة لها وصعوبة تعريفها، كان الدافع وراءه هو الالتفات إلى أننا في بحث الحرية نتعاطى مع مفهوم إنتزاعي. فعندما يقال(حرية) يحصل للسامع شعور بالارتياح إزاءها، وكل الشعوب والأمم تقريباً تقدّس الحرية؛ لأن الإنسان بفطرته يميل إلى الحرية ويبحث عنها دائماً. ولو سئل الناس هل يريدون أن يكونوا عبيداً أم أحراراً؟ فمن المؤكد أنهم جميعاً يفضلون الحرية ولا أحد منهم يريد العبودية.
ولكن نظراً إلى عدم وجود تعريف واضح للحرية، فنحن نواجه حالات يختلف فيها حتّى دعاة الحريّة أنفسهم. فقد يعرض أحدهم رأياً في الحرية لا يرتضيه آخر، ويعلن بأنه لا يريد هذا المعنى وإنما يقصد معنىً آخر، ويدافع عن معنى آخر لهذا المصطلح. وفي المقابل ينقض الشخص الأول كلام الثاني ويعلن بأنّه لا يريد هذا المعنى وإنّما يقصد معنىً آخر، ويدافع عن معنى آخر لهذا المصطلح. وفي المقابل ينقض الشخص الأول كلام الثاني ويعلن بأنه لا يقصد ما ذهب إليه المقابل، وهكذا.
لو استعرضنا ما كتب خاصة في السنوات الأخيرة من مقالات وكتب ورسائل عن الحرية، نلاحظ عدم وجود مفهوم واضح ومشترك حولها بين الكتّاب والباحثين. فقد عرّفها شخص بشكل معيّن وهو يدافع عن تعريفه، وعرّفها شخص آخر بمعنى آخر منتقداً تعريف الأول. ومن الطبيعي أن وجود هذه الاختلافات لا ينتهي إلى حصول تفاهم، ولابد من الاتفاق على تعريف معيّن مشترك في سبيل حصول التفاهم والتوصل إلى نتيجة من البحث، أي أننا إذا عرفنا ماهية الحريّة نستطيع أن نجزم فيما إذا كانت تنسجم مع الإسلام أم لا.

 

لهذا المفهوم معان متعددة، إلى حد أن الكتّاب الغربيين ذكروا لها ما يناهز مائتي تعريف. وغالباً ما تتقارب هذه التعاريف ولا تختلف عن بعضها الآخر إلا بزيادة أو نقص كلمة أو كلمتين. ولكنها تختلف كثيراً في حالات أخرى حتى تصل حد التنافي، فكيف إذاً يمكن الحكم بأنها تنسجم مع الإسلام أو لا؟
وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى مصطلح الديمقراطية، وهو مصطلح غربي يراد به أحياناً(سيادة الشعب)(1), ويراد به أحياناً أخرى حاكمية أو حكومة الشعب. ولكن لا يوجد لها معنى دقيق وواضح. وليس من المعروف هل الديمقراطية نوع من الحكم، أم نوع من السلوك الاجتماعي؟ وهل لها علاقة بمجالات الحكومة والشؤون السياسية أم لها علاقة بشؤون علم الاجتماع والإدارة. هناك في هذا المجال أبحاث كثيرة. وفضلاً عن ذلك فإن ترجمة مثل هذه المصطلحات من لغة إلى لغة أخرى تزيدها غموضاً.
وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى كلمة الليبرالية التي كانت تترجم سابقاً بمعنى التحررية وتحظى هي الأخرى بقدسية ومحبوبية تبعاً لما تحظى به كلمة الحرية من هذه الأمور. وعلى هذا الأساس ظهرت إلى الوجود في السنوات الأخيرة من الحكم البهلوي [في إيران] أحزاب تحمل صفة (أحزاب تحررية).
إذاً يصبح البحث معقداً بسبب الغموض الذي يلف مثل هذه المفاهيم الانتزاعية. فهذا الغموض يجعل المفاهيم فضفاضة لا يمكن تحديد معانيها بشكل قاطع وغير قابل للتغيير. مثل هذه المفاهيم مطاطة وليس لها حدود معيّنة، وقابلة للتقلص والانبساط. ومن الطبيعي أن وجود مثل هذه المشاكل يجعل البحث معقداً وغامضاً.


والآن، وفي ضوء هذه المشاكل وهذا الالتباس في فهم الحرية والنظر إليها ـ إلى درجة أنهم أحصوا لها مائتي تعريف ـ لو أردنا عند بحث الحرية من وجهة نظر الإسلام مقارنة كل واحد من هذه التعاريف بمفرده مع الإسلام، فإن مثل هذا العمل يكون صعباً ومعقداً في أجواء أكاديمية، فما بالك إذا جاء على شكل بحث عام يطرح لمختلف الطبقات والشرائح. وهكذا نجد أنفسنا مضطرين إلى انتهاج أُسلوب تطبيقي في هذا البحث لنرى ما يحمله دعاة الحرية من معنىً ومفهومٍ لها. وماذا يريدون من وراء الحرية؟ ثم نرى هل ينسجم ما يطمحون إليه من الحرية مع الإسلام أم لا؟ وما هو المعنى الذي يريده دعاة الحريّة الذين يزعمون بأن هذا البلد لا حرية فيه؟ هل المطبوعات فاقدة للحرية؟ أم أن الأفراد لا يملكون حريّة فردية؟ أم هم محرومون من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ أم ليس لهم حرية البيان؟ ينبغي النظر ومعرفة ما هي الحالة التي يعتبرون فيها الناس أحراراً؟
لو بحثنا في المصاديق لعلنا نتوصّل إلى نتيجة واضحة؛ لأننا على الأقل نعرف ما يقوله المقابل وما يريده. وفي هذه الحالة لن تكون أجواء البحث غائمة وغامضة بحيث يمكن أن يُساء استغلالها من قبل البعض. 

 

3ـ عدم إطلاق الحرية ورد شبهة تقدمها على الدين
يستغلُّ المخادعون والمغرضون عادةً المفاهيمَ الانتزاعية الفضفاضة مثل مفهوم الحرية، من أجل تحقيق مآربهم، ويذكرونها على نحو يفهمها المخاطب بشكل معيّن، غير أنهم يقصدون شيئاً آخر، وهكذا يلقنون مقاصدهم السيئة بكلمات خداعة وبأساليب زاخرة بالمغالطات. نذكر على سبيل المثال أنهم أثاروا في بحوثهم وخطبهم ومقالاتهم التي كتبوها في بعض الصحف والمجلات، سؤالاً يقول: هل الدين مقدّم على الحرية أم الحرية مقدمة على الدين؟ وهل الأصالة للحرية وأمّا الدين فهو تابع لها، أم الأصالة للدين والحرية تابعة له؟
لا شك أن هذا السؤال يبدو سؤالاً علمياً، وفهم (هل الأصالة للدين أم للحرية؟) أمر يجتذب القلوب. وإذا قلنا عند بحث هذا الموضوع بأنَّ الأصالة للدين، فسرعان ما يقولون: إن لم يكن المرء حرّاً فكيف يتسنى له اختيار دين معين؟ إذ أن الإنسان لابد أن يكون حراً حتى يكون قادراً على اعتناق دين. فمن الواضح إذاً إن الحرية مقدّمة على الدين. ثم يستنتجون من ذلك بأنَّ الدين لا يستطيع تحديد الحرية لأنها بمثابة الأب للدين وهي مقدمة عليه!
إذاً يمكن للإنسان أن يفعل ما يشاء، ويفكر كيفما يريد! وكما تلاحظون فإنَّ هذا الاستدلال الممزوج بالمغالطة يبدو موجهاً في الظاهر؛ لأنَّه إذا لم يكن المرء حراً فكيف يتسنى له اعتناق الإسلام؟ فلابد أن يكون حراً حتى يختار الإسلام ديناً؛ إذاً يفهم من ذلك أن الحرية مقدّمة على الدين، وهي أساسه، وهي التي تمنحه الاعتبار، وهي أساساً تعتبر العلة الوجودية للدين. وفي هذه الحالة لا يمكن للدين أن يقيّد أو يقضي على عامل ولادته والعنصر الموجد له. ويستنتجون في نهاية الأمر بأن لكل فرد منتهى الحرية في أية بيئة دينية!

 

يستدل جماعة آخرون بأن الإنسان لا يُخلق عبداً بل حراً، إذاً يجب أن يكون حراً في الحياة أيضاً. ويستدلون أيضاً بأنَّ الحرية والاختيار قيمة فريدة لا نظير لها، وعلى هذا الأساس ما قيمة الإنسان إذا جاء إلى هذه الدنيا وهو مشلول اليدين والرجلين ومعقود اللسان؟ قيمة الإنسان تكمن في أن يكون حُراً ليذهب حيثما يشاء وليفعل بيده ما يشاء، وليقول ما يشاء. فإن كان الإنسان قد خُلق حراً تكوينياً، فلابد أن يكون حراً قانونياً (تشريعياً) أيضاً! وهذه هي نفس المغالطة في استنباط خاطئ لما ينبغي أن يكون مما هو كائن. ولو شئنا تناول هذه المسائل بصورة جادّة، لاستدعى الأمر استعراض بحوث فلسفية وأكاديمية دقيقة، ولا نحصل من ذلك على النتيجة بسرعة.
وكما سبقت الإشارة فإنَّنا لو شئنا البحث حول تعريف الحريّة لكان علينا بحث عشرات التعاريف. ولهذا وجدنا من الأفضل بحث مصاديقها فنقول لمن ينادي بالحرية: هل تسمح لي أن أصفعك واستدل على أنني حر؟ من البديهي أن الجواب سيأتي بالنفي، ويقول بأنه لم يكن هذا هو مراده؛ لأن هذا العمل عبارة عن اعتداء على حق شخص آخر.
إذاً نستنتج من ذلك بأن الحرية تكون مقبولة في الحد الذي لا يحصل فيه تجاوز على حقوق الآخرين، فالحرية إذن ليست مطلقة. ولو قلت لأحد: هل تأذن لشخص آخر أن يسبّك ويشتمك وينال من عِرضك كيف يشاء من غير أن يضربك؟ من الطبيعي أن يرفض ذلك. لأن هذا العمل يعدّ بحد ذاته اعتداءً على حقوق الآخرين. وشرف الإنسان وعِرضه محترم في المجتمع. ويفهم من هذا بأنَّ الاعتداء على الآخرين لا ينحصر في دائرة الاعتداء البدني فقط.
ولو أن شخصاً أراد أن يكتب ضده مقالة في صحيفة وينتهك فيها حرمته ويسيء إليه، فهل يأذن له بذلك، مع العلم أنه لا يحصل في هذه المرّة أي اعتداء بدني، ولا إهانة شفوية باللسان؟ من الطبيعي أنه لا يأذن له بذلك ويعتبر هذا العمل عدواناً عليه وهتكاً لكرامته، والشخص لا يسمح عادة للآخرين بالإساءة إلى كرامته وسحق حقوقه. إذاً اتضحت لدينا حتى الآن ثلاثة قيود للحرية، فإذا نقضت هذه القيود كان ذلك بمثابة اعتداء على حقوق الآخرين.

ـــــــــ
(1) هذا المصطلح (سيادة الشعب أو حكم الشعب) عبارة عن توليف بين لفظتين يونانيّتين، هما : (Demos ) وتعني الشعب، و (Kratos) التي تعني الحكم والسلطة والسيادة، وهو ما يُسمّى اليوم باسم حكم الشعب أو حكم آراء الشعب. وتنطوي الديمقراطيّة على فكرة الفصل بين السلطات، وحرية الانتخابات، وسيادة القانون، وحريّة البيان. وقد جاءت هذه الأطروحات كحصيلة لمسيرة تدريجيّة جرت في الغرب، وحلّت فيها الأنظمة الديمقراطية محل الأنظمة القديمة السابقة على الديمقراطية؛ وهي الأنظمة النبلائية والملكيّة.
بدأت أول موجة للديمقراطية في العالم في القرن الثامن عشر بالثورة الفرنسية والأمريكية. ثم عصفت هذه الموجة بأكثر دول أوربا الغربية وحتى بعض الدول الأفريقية والآسيوية، ومهَّدت لقيام أنظمة ديمقراطية فوق سطح المعمورة. (المصدر: محسن حيدريان، سيادة الشعب تحدٍّ مصيري في إيران، ص 31و 40).
(2) سورة الأنعام، الآية 33.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة