علمٌ وفكر

الحداثة

 

السيد منير الخباز
الحداثة تختلف عن العلمانية
الحداثة في بداية تجذرها وتكوّنها هي عبارة عن تحديث الفكر الديني، بمعنى إيجاد التأقلم والتوافق بين الفكر الديني والظروف الحضارية المعاصرة، لذلك الحداثة اتجهت إلى ثلاث فلسفات:
الأولى: أن الحداثة عبارة عن تعدد القراءات للفكر الديني. الحداثيون يقولون بأنَّ الوحي الذي نزل على النبي   كمعانٍ وكحقائق فكرية هو أمرٌ مقدسٌ، لكن المفروض أن هذا الوحي نزل في قوالب لغوية، ونزل عبر مادة لغوية، والمادة اللغوية - كاللغة العربية الموجودة في القرآن الكريم - هي عنصر بشري، وليست عنصرًا سماويًّا، الوحي نفسه عنصر سماوي مقدس، لكن المادة التي صيغ بها الوحي هي مادة إنسانية، هي مادة لغوية، ولأجل أنها مادة لغوية، والمادة اللغوية مرنة، ومطاطة، وقابلة لاختلاف القراءات، واختلاف الإيحاءات، لذلك الدين لم يقصر البشرية على قراءة واحدة.
إذن، الفلسفة الأولى لتيار الحداثة هي تعدد القراءات، وتعدد القراءات يبتني على الفصل بين ما هو عنصر مقدس وما هو عنصر بشري، وأن العنصر المقدس هو الوحي كحقائق فكرية، وأما المادة اللغوية التي تسمى القرآن الآن أو تسمى السنة فهي عنصر بشري، وهذه المادة اللغوية بطبيعتها هي طبيعة مرنة مطاطة، تقبل الاتجاهات المختلفة، تقبل الأفكار المختلفة، القراءات المختلفة، وبالتالي قصر الدين والفكر الديني على قراءة واحدة - كالقراءة الفقهية الموجودة الآن في الحوزات العلمية - هذا القصر وهذا الاختصاص يتنافى مع طبيعة العنصر البشري في المادة اللغوية.
إذن، كلما تقدم الإنسان، واتسعت آفاق ثقافته، واتسعت الرؤية الحضارية للإنسان، اتسعت قراءته للأفكار، سواء كانت أفكارًا قديمة أو حديثة، اتسعت مدارك فهمه للنصوص التي هي بيده، وكيفية التعامل معها، لذلك ما دام الفكر الديني تحول إلى مادة ذات عنصر بشري، إذن فهو قابلٌ لتعدد القراءات المختلفة، هذه رؤية أولى للحداثة.

 

المصطلح الثاني لتيار الحداثة: تاريخية النص.
هم يقولون بأنَّ هذه النصوص، خصوصًا نصوص السنة، سواء السنة الصادرة عن النبي  ، أو السنة الصادرة عن أبنائه المعصومين، أو عن الصحابة، هذه النصوص صدرت في ظروف اجتماعية معينة، وفي مستوى حضاري معين، وبالتالي فإن هذه النصوص حينما صدرت في ظروف معينة، وكانت من أجل تغيير تلك الظروف والنهوض بها، إذن فهي ناظرة لحقبة زمانية معينة، وناظرة لعلاج مستوى ثقافي معين، وبالتالي لا يجوز تعميم هذا النص وتمديده إلى التاريخ المعاصر. النصوص مثلًا التي تحدثت عن حقوق المرأة، أو النصوص التي تحدثت عن حقوق الحاكم والشعب، والنصوص التي تحدثت عن عالم التجارة، حرمة الربا، حلية البيع، وأمثال ذلك، تلك النصوص ناظرة لحقبة زمنية معينة، هذه رؤية أخرى للحداثة.

 

الرؤية الثالثة للحداثة: أن الحداثة تبتني على الثابت والمتغير.
أو ما يعبّر عنه السيد عبد الكريم سروش - المفكر الإيراني - تبتني على القبض والبسط في الفكر الديني، الفكر الديني يقبل القبض والبسط، يختزل الثابت والمتغير، هذه الفكرة تقوم على أساس أن هناك فرقًا بين الدين والفكر الديني، الدين حقائق وصلت إلى النبي  ، أما الفكر الديني فهو القراءة التي قرأها الإنسان، سواء كان فقيهًا أو مفكرًا أو فيلسوفًا، قرأها للدين، هذا الفكر الديني الذي هو عبارة عن القراءة البشرية للدين يختزل ثابتًا ومتغيرًا، هذا الفكر الديني يختزل القبض والبسط.
كلما تطور الفكر الإنساني حدثت أدوات جديدة، وهذه الأدوات الجديدة على أساسها إما أن ينكمش الفكر الديني أو يتوسع، نتيجة لتغير الأدوات بين فترة وأخرى، فمثلًا: قبل ثلاث مئة سنة كان الفلاسفة يبنون على مبدأ أصالة الماهية، فكان الفكر الديني في العقائد وفي إثبات وجود الله وفي إثبات صفاته وفي إثبات النبوة وفي إثبات العصمة، كان يبتني على أداة معينة، وهي أصالة الماهية، جاء صدر المتألهين الشيرازي واخترع أداةً أخرى، وهي أصالة الوجود، تغير ذلك الأساس الذي قام عليه فكرٌ دينيٌ لحقبة زمنية طويلة. إذن، نتيجة تغير الأساس يتغير ما بُنِي عليه، نتيجة اختلاف الأداة تختلف القراءة الدينية ويختلف الفكر الديني، هذا ما يعبّر عنه بالقبض والبسط، واختزال الثابت والمتغير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة