قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

تحية الإسلام «السلام»

السيّد محمّد حسين الطباطبائي
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا..﴾.
لا تخلو الأُمم والأقوام - على اختلافها في الحضارة والتوحّش والتقدّم والتأخّر- من تحيّة يمارسونها عند ملاقاة بعضهم البعض، وهذه التّحيّة تتنوّع من الإشارة بالرأس واليد، ورفع القلانس وغير ذلك، وهي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
وأنت إذا تأمّلت هذه التحيّات الدائرة بين الأُمم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتَها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلّل يبديه الداني للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمُطاعه، والعبد لمولاه. وبالجملة، تكشف هذه التّحايا عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجاً بين الأمم في أعصار الهمجيّة فما دونها وإن اختلفت ألوانه، ولذلك، ما نراه من أنّ هذه التحيّة تبدأ من المطيع وتنتهي إلى المطاع، وتشرع من الداني الوضيع وتُختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنيّة التي ترتضع من ثَدي الاستعباد.
والإسلام - كما تعلم - أكبرُ همّه محو الوثنيّة وكلّ رسم من الرسوم ينتهي إليها ويتولّد منها، ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقةً سويّة وسُنّة مقابلة لسُنّة الوثنيّة ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام، الذي هو بنحوٍ أمنُ المسلَّم عليه من التعدّي عليه ودحض حرّيّته الفطريّة الإنسانيّة الموهوبة له، فإنّ أوّل ما يحتاج إليه الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد هو أن يأمن بعضُهم بعضاً في نفسه وعِرضه وماله، وكلِّ أمر يؤول إلى أحد هذه الثلاثة.
وهذا هو «السلام» الذي سنّ الله تعالى إلقاءه عند كلّ تلاق من متلاقيَين، قال تعالى: ﴿..فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً..﴾ النور:61، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النور:27.


وقد أدّب الله رسولَه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتسليم للمؤمنين - وهو سيّدهم - فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..﴾ الأنعام:54، وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الزخرف:89.
والتحيّة بإلقاء السلام كان معمولاً بها عند عرب الجاهليّة على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه، وفي (لسان العرب): «وكانت العرب في الجاهليّة يحيّون بأن يقول أحدُهم لصاحبه: أنعِم صباحاً، وأُبيتَ اللّعن، ويقولون: سلامٌ عليكم، فكأنه علامة المسالمة، وأنّه لا حرب هنالك. ثمّ جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، وأُمروا بإفشائه».
إلّا أنّ الله سبحانه يحكيه [السلام] في قصص إبراهيم عنه عليه السلام كثيراً، ولا يخلو ذلك من شهادةٍ على أنّه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب؛ كالحجّ ونحوه، قال تعالى حكاية عنه فيما يحاور أباه: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي..﴾ مريم:47، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ..﴾ هود:69، والقصّة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
ولقد أخذه الله سبحانه تحيّة لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ الصافات:79، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الصافات:109، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ الصافات: 120، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ الصافات:130، وقال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلينَ﴾ الصافات:181، وذكر تعالى أنّه تحيّة ملائكته المكرمين، قال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ..﴾ النحل:32، وقال: ﴿.. وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ..﴾ الرعد:23-24، وذكر أيضاً أنّه تحيّة أهل الجنّة، قال: ﴿.. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ..﴾ يونس:10، وقال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ الواقعة:25-26.


السلام في الروايات
[وفيما يلي نبذة من الروايات في أمّهات المصادر الروائية]:
* في (الكافي) بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «السَّلامُ تَطوّعٌ والردُّ فَريضةٌ».
* وفيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «يُسلّمُ الصَّغيرُ على الكَبيرِ، والمارُّ على القاعِدِ، وَالقَليلُ عَلى الكَثيرِ».

* وفيه [الكافي] بإسناده عن عيينة، عن مصعب، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «القليلُ يَبْدَأونَ الكَثيرَ بِالسَّلامِ، وَالرّاكِبُ يَبْدَأُ الماشي، وَأَصْحابُ البِغالِ يَبْدَأونَ أَصْحابَ الحَميرِ، وَأَصْحابُ الخَيْلِ يَبْدَأونَ أَصْحابَ البِغالِ».
* وفيه بالإسناد عنه عليه السلام قال: «إذا مَرَّتِ الجَماعَةُ بِقَوْمٍ أَجْزَأُهُمْ أَنْ يُسَلِّمَ واحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِذا سَلَّمَ عَلى القَوْمِ وَهُمْ جَماعَةٌ أَجْزَأُهُمْ أَنْ يَرُدَّ واحِدٌ مِنْهُمْ».
* وفي (التهذيب) بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام وهو في الصلاة فقلت: السلام عليك. فقال: السَّلامُ عَلَيْكَ. فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلمّا انصرف [من صلاته] قلت: أيَرُدُّ [المصلّي] السلامَ وهو في الصلاة؟ قال: نَعَمْ، مِثْلَ ما قيلَ لَهُ.
* وفيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إِذا سَلَّمَ عَلَيْكَ الرُّجُلُ وَأَنْتَ تُصَلّي تَرُدُّ عَلَيْهِ خَفِيّاً كَما قالَ».
* وفي (الفقيه) [من لا يحضره الفقيه] بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: «لا تُسَلِّموا على اليهودِ ولا على النَّصارى ولا على المَجوس، ولا على عَبَدَةِ الأَوْثانِ، ولا على موائدِ شرابِ الخَمْرِ، ولا على صاحِبِ الشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ، ولا على المُخَنَّثِ، ولا على الشّاعِرِ الّذي يَقْذِفُ المُحْصَناتِ، ولا على المُصَلّي لأنَّ المُصَلِّيَ لا يَستطيعُ أَنْ يَرُدَّ السَّلامَ لِأَنَّ التَّسْليمَ مِنَ المُسَلِّمِ تَطَوَّعٌ وَالرَّدَّ فَريضَةٌ، وَلا عَلى آكِلِ الرِّبا، وَلا عَلى رَجُلٍ جالسٍ عَلى غائِطٍ، وَلا على الّذي في الحَمّامِ، وَلا عَلى الفاسِقِ المُعْلِنِ بِفِسْقِهِ».
والروايات في معنى ما تقدّم كثيرة.


الخلاصة
فالسلام تحيّة مؤذِنة ببسط السِّلم، ونشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة وإنّما هو مبنيّ على وجوب رعاية الحقوق، فإنّ الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق وإهمال أمر الفضائل والمزايا، بل أمَرَ غيرَ صاحب الفضل أن يراعيَ فضلَ ذي الفضل، وحقَّ صاحب الحقّ، وإنّما نهى [الإسلام] صاحبَ الفضل أن يُعجَب بفضله، ويتكبّر على غيره فيبغي على الناس بغير حقّ فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.
وأمّا النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنّما هو متفرّعٌ على النهي عن تولّيهم والركون إليهم كما قال تعالى: ﴿..لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ..﴾ المائدة:51، وقال: ﴿..لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ..﴾ الممتحنة:1، وقال: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا..﴾ هود:113، إلى غير ذلك من الآيات.
نعم ربّما اقتضت مصلحة التقرّب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحقّ التسليمَ عليهم ليحصل به تمام الأنس وتمتزج النفوس، كما أُمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك في قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ..﴾ الزخرف:89، وكما في قوله يصِفُ المؤمنين: ﴿.. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ الفرقان:63.
* وفي تفسير (الصافي): «عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ رجلاً قال له: السلام عليك، فقال : وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ. وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وَعَلَيْكَ، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا..﴾؟ (النساء:86) فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إِنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ فَضْلاً، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مِثْلَهُ».
* وفي (الكافي) عن الباقر عليه السلام، قال: «مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بقومٍ فسلّم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: لا تُجاوِزوا بِنا مِثْلَ ما قالتِ المَلائكةُ لِأَبينا إبراهيمَ، قالوا: ﴿..رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ..﴾». (هود:73)
وفيه إشارة إلى أنّ السنّة في التسليم التامّ - وهو قول المُسلِّم «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» - مأخوذة من حنيفيّة إبراهيم عليه السلام، وتأييدٌ لما تقدّم أنّ التحيّة بالسلام من الدين الحنيف.
* وفيه [الكافي] عن الصادق عليه السلام: «إنَّ مِنْ تَمامِ التَّحِيَّةِ للمُقيمِ المُصافَحَة، وتمام التَّسْليمِ عَلى المُسافرِ المُعانَقَة».

* وفي (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ قولوا يَرْحَمُكُمُ اللهُ، وَهُوَ يَقولُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمُ وَيَرْحَمُكُمْ؛ قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا..﴾».
* وفي (المناقب): «جاءت جارية للحسن عليه السلام بطاق ريحان، فقال لها: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ، فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: أَدَّبَنا اللهُ تَعالى فقالَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا..﴾ وَكانَ أَحْسَنَ مِنْها إِعْتاقُها».
والروايات - كما ترى - تعمّم معنى التحيّة في الآية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة