علمٌ وفكر

الرؤيا


الشيخ المفيد
الرؤيا في المنام تكون من أربع جهات:
 أحدها: حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطَبِع في النفس، فيُخيَّل إلى النائم ذلك بعينه، وأشكاله، ونتائجه، وهذا معروفٌ بالاعتبار.
الجهة الثانية: من الطبائع، وما يكون من قهر بعضها لبعض، فيضطرب له المزاج، ويتخيّل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب؛ من مأكول، ومشروب، ومرئيٍّ، وملبوس، ومبهِج، ومُزعج. وقد نرى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد؛ حتّى أنّ:
- مَن غلبت عليه الصفراء، يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي، ويتخيّل له من وقوعه منه، ويناله من الهلع والزّمَع ما لا ينال غيرَه. [ الصفراء والسوداء من أمزجة الجسد وطبائعه عند قدامى الأطباء ]
- ومَن غلبت عليه السوداء يتخيّل له أنّه قد صعد في الهواء، وناجَته الملائكةُ، ويظنّ صحّة ذلك، حتى أنّه ربّما اعتقد في نفسه النبوّة، وأنّ الوحي يأتيه من السماء، وما أشبه ذلك.
والجهة الثالثة: ألطافٌ من الله عزّ وجلّ لبعض خَلقه، من تنبيهٍ، وتيسيرٍ، وإعذارٍ، وإنذارٍ، فيُلقى في روعه ما يُنتج له تخيّلات أمور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة، وأمور تزجره عن المعصية وتخوّفه الآخرة، ويحصل بها مصلحة، وزيادة فائدة، وفكر يُحدِث له معرفة.
والجهة الرابعة: أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان، ويذكّره بها أموراً تُحزنه، وأسباباً تغمّه، وتطمّعه في ما لا يناله، أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطَبُه، أو تخيُّل شبهة في دِينه يكون منها هلاكه، وذلك مختصّ بمَن عُدِم التوفيق لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه.


ولن ينجوَ من باطل المنامات وأحلامها إلّا الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، ومَن رسَخ في العلم من الصالحين. وقد كان شيخي رضي الله عنه، قال لي: «إنّ كلّ مَن كثُر علُمه واتّسع فهمه قلّت مناماته، فإنْ رأى مع ذلك مناماً وكان جسمه من العوارض سليماً، فلا يكون منامه إلّا حقّاً»؛ يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيّجة للطباع وغلبة بعضها على ما تقدّم به البيان.
والسكران أيضاً لا يصحّ له منام، وكذلك الممتلئ من الطعام لأنّه كالسكران، ولذلك قيل إنّ المنامات قلّما تصحّ في ليالي شهر رمضان.
 

رؤيا الأولياء
فأمّا منامات الأنبياء صلوات الله عليهم، فلا تكون إلّا صادقة، وهي وحيٌ في الحقيقة، ومنامات الأئمّة عليهم السلام، جارية مجرى الوحي وإن لم تُسمَّ وحياً، ولا تكون قطُّ إلّا حقّاً وصدقاً، وإذا صحّ منام المؤمن، فلأنّه من قِبَل الله تعالى، كما ذكرناه، وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: «رؤيا المؤمن جزءٌ من سبعة وسبعين جزءاً من النبوّة».
وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، قال: «رؤيا المؤمن تَجري مَجرى كلامٍ تكلّم به الربُّ عنده».
إلقاءات الشياطين
فأمّا وسوسة شياطين الجنّ، فقد ورد السمع بذكرها؛ قال الله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.
وقال: ﴿..وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ..﴾ (الأنعام:121).
وقال: ﴿..شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا..﴾ (الأنعام:112).
وما ورد السمع به فلا طريق إلى دفعه.
فأمّا كيفيّة وسوسة الجنّي للإنسيّ، فهو أنّ الجنّ أجسام رقاق لطاف، فيصحّ أن يتوصّل أحدهم برقّة جسمه ولطافته إلى غاية سمع الإنسان ونهايته، فيُوقر فيه كلاماً يلبّس عليه إذا سمعه ويشبّه عليه بخواطره، لأنّه لا يَرِد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه، ويصحّ أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعاً، وليس هو في العقل مستحيلاً.
وروي أنّ جابر بن عبد الله، قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يخطب، إذ قام إليه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنّي رأيتُ كأنّ رأسي قد قُطع، وهو يتدحرج وأنا أتبعُه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تحدّثْ بِلَعِب الشيطان بك. ثمّ قال: إذا لعب الشيطان بِأحدكم في منامِه فلا يحدّثنّ به أحداً».

 

رؤية النبيّ صلّى الله عليه وآله في المنام
وأمّا رؤية الإنسان للنبيّ صلّى الله عليه وآله، أو لأحد الأئمّة عليهم السلام، في المنام، فإنّ ذلك عندي على ثلاثة أقسام؛ قسم أقطعُ على صحّته، وقسم أقطع على بطلانه، وقسم أجوّز فيه الصحّة والبطلان، فلا أقطع فيه على حال.
فأمّا الذي أقطع على صحّته: فهو كلّ منام رُئي فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله أو أحد الأئمّة عليهم السلام، وهو فاعلٌ لطاعة أو آمِرٌ بها، وناهٍ عن معصية أو مبيّنٌ لقُبحها، وقائلٌ لحقٍّ أو داعٍ إليه، أو زاجرٌ عن باطل أو ذامّ لما هو عليه.
وأمّا الذي أقطع على بطلانه: فهو كلّ ما كان على ضدّ ذلك، لِعلْمنا أنّ النبيّ والإمام عليهما السلام، صاحِبا حقّ، وصاحب الحقّ بعيدٌ عن الباطل.

وأمّا الذي أجوّز فيه الصحة والبطلان: فهو المنام الذي يُرى فيه النبيّ أو الإمام عليهم السلام، وليس هو آمراً ولا ناهياً، ولا على حالٍ يختصّ بالديانات؛ مثل أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو ذلك.
فأمّا الخبر الذي يروى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، من قوله: «مَن رآني فقد رآني، فإنّ الشيطانَ لا يتَشبّه بي»، فإنّه إذا كان المراد به المنام يُحمل على التخصيص، دون أن يكون في كلّ حال، ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة أقسام، لأنّ الشيطان لا يتشبّه بالنبيّ صلّى الله عليه وآله، في شيء من الحقّ والطاعات.
وأمّا ما روي عنه صلّى الله عليه وآله، من قوله: «مَن رآني نائماً فكأنّما رآني يقظاناً»، فإنّه يحتمل وجهين:
- أحدهما أن يكون المراد به رؤية المنام، ويكون خاصّاً كالخبر الأوّل على القسم الذي قدّمناه.
- والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام، ويكون قوله «نائماً» حالاً للنبيّ صلّى الله عليه وآله، وليست حالاً لمَن رآه؛ فكأنّه قال: مَن رآني وأنا نائم، فكأنّما رآني وأنا منتبه.
والفائدة في هذا المقام أن يُعْلمهم بأنّه يدرك في الحالتين إدراكاً واحداً، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم، أن يفيضوا فيما لا يحسن أن يذكروه بحضرته وهو منتبه. وقد رُوي عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «إنّي لستُ كَأحدِكم؛ تنامُ عيناي ولا ينامُ قلبي».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة