مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

البحث عن غرائب وعجائب الآخرة

 

لماذا يُعدُّ السير إلى الآخرة جزءًا أساسيًّا من نمط العيش الإسلاميّ؟
السيد عباس نورالدين
حضور الآخرة في حياة المسلم الواقعي هو أمرٌ جوهريّ؛ فلأنّها الحياة الأبدية فهي الحياة الحقيقية. وهل يمكن مقارنة حياة محدودة زائلة بحياة دائمة أبدية، حتى يحصل أي تردّد بينهما؟! هل يتردّد الإنسان العاقل في الاختيار بين الصفر والمطلق؟ لهذا، فإنّ كل شيء في الدنيا يحسبه وفق حسابات الآخرة. وحتى لو كانت لذّته عظيمة ومجده كبير ومتعته لا توصف، فإنّ المسلم الواقعيّ مستعدٌّ أن يضحّي به ويتخلّى عنه لمجرّد أن يتعارض مع سعادة الآخرة ونعيمها المقيم.
وماذا يوجد في الآخرة من نعيم ولذّة وسعادة؟
إنّها سعادة لقاء الله التي هي الاتّصال بالروح الأعظم. وكل من عرف شيئًا عن السّعادات الروحيّة يمكنه أن يتصوّر بعض ما يمكن أن يحدث جرّاء هذا الاتّصال. ولحسن الحظ، فإنّ الله تعالى يذيق من يسلك طريق لقائه ورضوانه بعضًا من هذه اللذات في الحياة الدنيا، لكي يعلم ما الذي ينتظره، فيزهد بما يمكن أن يغريه.


يسعى المسلم الواقعيّ إلى تحقيق تجربة روحيّة خاصّة مع الله، يكون عنوانها الكبير حبّ الله تعالى. فهو يعلم أنّ الله تعالى يحبّه، ولولا ذلك لما خلقه. فما الذي يمكن أن يجبر الله أو يفرض عليه أن يفعل أي شيء، حتى لو كان خلق إنسان حقير مثلي؟
لا يشك هذا المسلم من حبّ الله له، وهو يسعى دومًا للشعور بهذا الحب وتقوية حضوره في قلبه، عسى أن ينبعث حب الله في قلبه؛ وهو يعلم أنها ليست بالمهمة المستحيلة. لأن الله تعالى قد جعل كل ما في الوجود رسالة محبّته وعنايته ولطفه بعباده؛ وما عليه إلّا أن يتلمّس هذه الإشارات ويفكّ رموزها التي سرعان ما تتكشّف بمعاني الحبّ الإلهيّ الخالص.
كثيرًا ما نشعر أنّ الله قد أهمل شأننا أو أنّه أسقطنا من عينه أو لم يعد مكترثًا بنا. ثمّ نكتشف لاحقًا أنّ شعورنا هذا لم يكن نابعًا إلا من شدّة تعلّقنا بهذه الدنيا وما فيها. فحزننا على ما فاتنا أو تألّمنا من عدم إدراك ما نتمنّى قد أعمى أبصار قلوبنا عن رؤية المشهد الكبير للحياة الحقيقية التي لا تكون سوى حياة الله والحياة مع الله.. فحسابات المحبوب كلّها ترتبط باللقاء والوصال، والغافل ينسى أنّ اللقاء النهائيّ والأبديّ سيكون في الآخرة وبعد عبور جسر الدنيا ومحطّاتها.
ولهذا، نحتاج إلى استحضار الآخرة دومًا، لكي لا تتسلّل تلك الأحاسيس الواهمة إلى قلوبنا وتعشعش فيها مثل الأعشاب الضارّة التي تقتل ورود الأفكار الصائبة.. وهكذا نحتاج إلى أن نجعل الآخرة نُصب أعيننا. وأوّل منازل الآخرة هو منزل الموت أو القبر أو البرزخ.


فقد جعل الله تعالى الموت أوّل تباشير الآخرة ليختبر عقولنا فلا نستخف بما ينتظرنا، ونقوّي هذه القدرة لنكون قادرين على استيعاب تلك الحقائق والعيش فيها. وحين نفهم هذه الظاهرة الكبرى، فإنّنا نحصل على أكبر عامل مساعد على الثبات على الصدق والصواب وحسن السلوك وصالح العمل. وكلّما حدّثتنا أنفسنا بمعصية أو خطأ أو تجاوز لحق، يمكننا أن نتذكّر الموت، فنستصغر شأن ما يغرينا بذلك ونبتعد عنه.
ولكي يكون الموت واعظًا وعاملًا للاستقامة نحتاج إلى فهمه. فمن الممكن أن يتحوّل الموت إلى عامل لليأس أو القنوط أو الجمود؛ وهي أمور لا تساعد أبدًا على الاستفادة المطلوبة من هذه الحياة لإعداد زاد الآخرة. وأوّل ما نحتاج إليه هنا هو أن نعرف أنّ الموت بوابة الانتقال إلى حياة أوسع وأرحب وأنور وأفضل؛ سواء كنا سنستفيد منها كما ينبغي أو لا. فكلّما اقتربنا من لقاء الله فهذا يعني أنّنا نقترب من رحمته المطلقة. وما علينا إلّا أن نهيّئ أنفسنا لمثل هذه الرحمة. فكيف نحقّق هذا الاستعداد؟
بكل بساطة، إن كنّا في هذه الحياة ممّن يستفيد من رشحات هذه الرحمة المطلقة ويتنعّم بها، فسوف نكون كذلك في المرحلة اللاحقة التي قد تطول كثيرًا، والتي جعلها الله لأجل تهيئتنا للرحمة المطلقة الأبدية في دار الخلد. وفي الواقع إنّ كل ما يجري في الحياة وما يليها من منازل ومقامات، إنّما هو لأجل تفعيل استعداداتنا وجعلنا قابلين للتنعّم بالمطلق من الرحمة والقدرة والعلم والحياة وكلّ الكمالات التي أعدّها الله لعباده في جنانه. ولهذا يرى المؤمن أنّ المصائب والمصاعب والبلاءات ليست سوى وسيلة تربوية إلهية لجعلنا مستعدّين ومقبلين.


إنّ تذكّر الموت بعد فهمه هو الذي يعطي النتائج الطيبة لهذه الظاهرة العظيمة. ولكي نفهمه يجب أن نعرف أوّلًا أنّ مثل هذه الظاهرة الوجودية التي خلقها الله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}،[1] ليست بالأمر الذي يمكن اختصاره بما نراه أمامنا من مظاهر الموت في الدنيا. فليس هذا الظاهر إلا شكل خادع وإن كان فيه عبرة للبعض. وقد سُئل العلّامة الطباطبائي عن بعض الشهداء كيف أنّهم شوهدوا أثناء انتقالهم من هذا العالم وهم يرتجفون ويتخبّطون بجراحاتهم وكأنّهم يعانون أشدّ المعاناة، فقال إنّ الإنسان إذا أُلقي في حوضٍ من الماء العذب البارد في حرّ الصيف القائظ سيكون من الطبيعي أن يتخبّط، لكن ذلك يكون من شدّة أُنسه بعذوبة الماء وبرودته.
 فانظر كيف يكون ظاهر الموت مخيفًا ومرعبًا وموحشًا، لكنّه يخفي من الأسرار ما لا يمكن معرفته إلا بالاتّصال بمن كان له قدرة الإحاطة به وإخبارنا عنه. ولهذا، يفتح المؤمن باب البحث عن أسرار الموت رغم أنّه مقدمة بسيطة جدًّا للحياة الآخرة، من أجل أن يستفيد من هذه الظاهرة التي تحيّر كل من لم يكن له حظُّ ورغبة في الاتّصال بأهل الشهود من الأنبياء والرسل وما جاؤوا به من كتاب الله.
يدرك المسلم أنّ حقائق الحياة الدنيا التي تختفي وراء الكثير من الظواهر المعمية ستتكشّف في الآخرة. فعلى سبيل المثال، ما هي حقيقة بواطن المؤمنين من أولياء الله الكاملين والتي لا يمكن لهذه الدنيا أن تظهرها. ففي الحديث أنّ الله تعالى لو كشف نور المؤمن في هذا العالم لخشع وخضع له كلّ العالمين.
 فهذه الظواهر الدنيويّة ليست سوى رموز، لا يمكن تفسيرها إلّا باكتشاف ارتباطها بذلك العالم الأبديّ. ولأجل ذلك يعتبر المسلم الواقعيّ أنّ قسمًا مهمًّا من تفكيره بقضايا الدنيا والأرض يجب أن ينصرف نحو اكتشاف رمزيّتها ودلالاتها؛ فهذه هي وسيلة اتّصاله الكبرى بمقرّه النهائيّ؛ مثلما أنّها وسيلة عروجه إليه.
البحث عن الآخرة في الدنيا هو أحد أعظم مهارات المسلم الواقعي. وفي الوقت الذي يبحث أهل الدنيا عن ذهبها وفضتها ليستغلوها في السيطرة والتسلط والجاه، فإن هذا المسلم يعلم أنه ما من شيء في هذه الحياة إلا وهو وسيلة للعبور نحو الحياة الحقيقية.
ــــــــ
 [1]. سورة الملك، الآية 2.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة