سياحة ثقافية

معالم مكّة المكرّمة الجغرافيّة والتاريخيّة (1)

 

كلّ ما في مكّة يحكي تاريخاً عريقاً ارتبط بعصور الأنبياء منذ آدم عليه السلام، حتّى عصر رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلكلّ جبلٍ فيها حكاية، ولكلّ شِعبٍ أو وادٍ رواية. أمّا مساجدها، فهي بمنزلة الأغصان التي تفرّعت من المسجد الحرام... حتّى مقبرتها حُفظت في الذاكرة العربيّة والإسلاميّة منذ الجاهليّة إلى اليوم...
جبل أبي قُبَيس
جبل أبي قُبَيس من جبال مكّة، وهو جبلٌ يشرف على المسجد الحرام من شرقيّه. يبلغ ارتفاعه 420 متراً تقريباً، وهو اليوم مكسوّ بالبنيان، من بيوت وقصور ومحلّات تجاريّة، وقد ذكره الرّحالة في كتبهم، من ذلك وصف ابن بطوطة عادات أهل مكّة ليلة العيد: «ويوقَد سطح الحرم كلّه، وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس».
 وعنه قال ابن جبير: «وفي أعلاه (أي أبي قبيس) رباطٌ مبارك فيه مسجد، وعليه سطحٌ مشرف على البلدة الطيّبة، ومنه يظهر حُسنها وحُسن الحرم واتّساعه، وجمال الكعبة المقدّسة القائمة وسطه... صعدنا إلى جبل أبي قبيس المذكور وصلّينا في المسجد المبارك، وفيه موضع موقف النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عند انشقاق القمر له بقدرة الله عزّ وجلّ». 
فإذا قصد زائرٌ، هذه الأيّام، إحدى الحارات في هذا الجبل للسكن أو التّسوّق، فإنّه لا يعلم أنّه يقف في أشهر جبل بمكّة، والذي دارت في سفوحه وبين صخوره أحداث جسام حفظها التّاريخ ووعتها الذاكرة... ويرى الدكتور جواد علي أنّه قديماً «سكن النّاس جبل أبي قبيس قبل سكنهم بطحاء مكّة؛ وذلك لأنّه موضع مرتفع ولا خطر على مَن يسكنه من إغراق السيول له، وقد سكنته بنو جُرهم... ويظهر أنّه كان من المواضع المقدّسة عند الجاهليّين، فقد كان نُسَّاك مكّة وزهّادها ومَن يتحنّف ويترّهب من أهلها في الجاهليّة يصعده ويعتكف فيه. ولعلّه كان مقام الطّبقة المترفة الغنيّة من أهل مكّة قبل نزوح قريش إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت».
 

أ) الاسم
بخصوص اسمه ورد في (معجم البلدان) للحمويّ: «قيل سُمّي باسم رجل من مِذحج كان يُكنّى أبا قبيس، لأنّه أوّل مَن بنى فيه قبّة...».
وقال الحموي: «أبو قبيس، الجبل الذي بمكّة، كنّاه آدم، عليه السّلام، بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس إلى اليوم، من مرختَين [المَرخ: صنفٌ من الشجر، ومنه يكون الزّناد الذي يُقتدح به] نزلتا من السّماء على أبي قُبيس، فاحتكّتا، فأورتا ناراً... وكان في الجاهليّة يُسمّى الأمين، لأنّ الرّكن (أي الحجر الأسود) كان مستودَعاً فيه أيّام الطّوفان... [وقيل:] سُمّي بأبي قبيس بن شامخ، وهو رجل من جرهم... وقد ضربت العرب المثل بقِدم أبي قبيس».
ب) مكانته الدّينيّة والتّاريخيّة
تذكر المصادر الإسلاميّة لهذا الجبل مزايا، منها:
أوّلاً: أنّه أوّل جبل وُضع على الأرض؛ عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ مِنَ الأَرْضِ مَوْضِعُ البَيْتِ، ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الأَرْضُ، وَإِنَّ أَوَّلَ جَبَلٍ وَضَعَهُ اللهُ عَلى وَجْهُ الأَرْضِ أَبو قُبَيْسٍ، ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الجِبالُ».
ثانياً: أنّه مهبط آدم عليه السّلام من الجنّة؛ سُئل الرضا عليه السّلام عن الحرَم وأعلامه، فقال: «إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا هَبَطَ مِنَ الجَنَّةِ هَبَطَ عَلى أَبي قُبَيْسٍ - وَالنّاسُ يَقولونَ بالهند - فَشَكا إِلى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الوَحْشَةَ وَأَنَّهُ لا يَسْمَعُ ما كانَ يَسْمَعُ في الجَنَّةِ، فَأَهْبَطَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ ياقوتَةً حَمْراءَ، فَوُضِعَتْ في مَوْضِعِ البَيْتِ، فَكانَ يَطوفُ بِها آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكانَ يَبْلُغُ ضَوْؤُها الأَعْلامَ، فَعُلِّمَتُ الأَعْلامُ عَلَى ضَوْئِها، فَجَعَلَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، حَرَماً».
ثالثاً: كان أبو قبيس أوّل جبل شُقّ منه حجارة لبناء البيت لقُربه من الحرم؛ ففي رواية نقلها العيّاشي في (تفسيره): «..ثمّ أوحى الله إلى جبرئيل: أن ابنِه وأتمِمه [أي البيت الحرام] بحجارةٍ من أبي قبيس، واجعل له بابين: باب شرقيّ، وباب غربيّ، قال: فأتمّه جبرئيل، فلمّا أن فرغ منه طافت الملائكة حوله، فلمّا نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط، ثمّ خرجا يطلبان ما يأكلان، وذلك من يومهما الذي هُبط بهما فيه».
رابعاً: أنّ الله تعالى استودعه الحجر الأسود زمن طوفان نوح عليه السّلام.
خامساً: أنّه موضع نداء الحجّ. عن الإمام الكاظم عليه السّلام: «..فَأَوْحى اللهُ إِلى إِبْراهيمَ: أَنِ اصْعَدْ أَبا قُبَيْسٍ فنادِ في النّاسِ: يا مَعْشِرَ الخَلائِقِ! إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ بِحَجِّ هَذا البَيْتِ الّذي بِمَكَّةَ مُحَرَّمَاً مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً، فَريضَةً مِنَ اللهِ...».
سادساً: إنّ الصّفا من أصل جبل أبي قبيس، والمَروة من أصل جبل قُعَيقِعَان.

 

سابعاً: أنّه موضع احتماء أهل مكّة من أبرهة، ودعاء عبد المطلّب عليه السلام فيه لكسر جيش العدوّ؛ ففي قصّة أصحاب الفيل المعروفة: «..قال عبد المطلّب لقومه: اخرجوا إلى جبل أبي قبيس حتّى يُنفِذ الله حكمه ومشيّته... فخرج القوم بأولادهم ونسائهم ودوابّهم، وخرج عبد المطلّب وبنو عمّه وإخوته وأقاربه، وأخرج مفاتيح الكعبة إلى جبل أبي قبيس، وجعل يسير بهم إلى الصّفا، ويدعو ويبكي ويتوسّل بنور محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجعل يقول: يا ربّ إليك المهرب، وأنت المَطلب، أسألك بالكعبة العلياء ذات الحجّ، والموقف العظيم المقرّب، يا ربّ ارمِ الأعادي بسهام العطب حتّى يكونوا كالحصيد المنقلِب..».
ثامناً: كان موضع استسقاء القوم عند القحط: فعندما أصاب القحطُ قريشاً في سنة من سنواتهم، ارتقوا أبا قبيس، حتّى إذا استووا بذروة الجبل، قام عبد المطلّب عليه السلام ومعه رسول الله صلّى الله عليه وآله [وهو دون الثامنة من عمره الشريف] فرفعَه على عاتقه، وقال: اللّهمَّ سادَّ الخُلَّة، وكاشفَ الكُربة، أنتَ مُعْلِمٌ غيرُ مُعْلَم، ومسؤولٌ غير مبخَّل، وهذه عِبِدّاؤك وإماؤك بِعَذِرَاتِ حَرَمِكَ يَشْكُون إليكَ سَنَتَهُم الّتي أَقْحَلَتِ الضَّرْعَ وَأَذْهَبَتِ الزَّرْعَ ، اللّهمّ فأمطِر علينا غيثاً مُغدقاً مرتعاً. فما راموا حتّى تفجرت السّماء بمائها، واكتظّ الوادي بثجيجه. [العذِرة، بكسر المعجمة: فناء الدار. والثّجيج: السّيل]
ــــــ
مجلة شعائر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة