قرآنيات

الرشد في القرآن (1)

 

السيد منير الخباز
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾
صدق الله العلي العظيم
الآية المباركة تناولت مفهوم الرشد، وقد ركزت عدة آيات قرآنية على هذا المفهوم، كقوله تعالى: ﴿عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾، والمقصود بالرشد هو الرأي الصائب الموافق للحقيقة والواقع، ولذلك الإنسان الذي تكون أغلب آرائه آراء صائبة يسمى بالإنسان الرشيد، والإنسان الذي أغلب آرائه آراء متخبطة يسمى بالإنسان السفيه، ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾، فالرشد هو صواب الرأي، ويقابله الغي، وهو عبارة عن الضلال وعدم الإصابة. القرآن الكريم يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ أي: تبين الصواب من الضلال. الآية المباركة تتكلم عن الرشد، وحديثنا حول الرشد في نقطتين:
•  في أن الرشد أمر حقيقي أم نسبي.
•  في أقسام الرشد وأنواعه.


النقطة الأولى: هل الرشد أمر حقيقي أم نسبي؟
هنا أمامنا نظريتان: النظرية العلمانية، والنظرية الإسلامية. ما تطرحه النظرية العلمانية هو أن الرشد أمر نسبي وليس أمرًا حقيقيًا، ليس أمرًا واقعيًا، الرشد مجرد أمر نسبي، بينما المدرسة الإسلامية تركز على أن الرشد أمر واقعي حقيقي وليس أمرًا نسبيًا. ما هو دليل هذه النظرية وما هو دليل تلك النظرية؟
النظرية العلمانية تقول: الرشد هو الرأي الصائب، والرأي الصائب هو الرأي المطابق للحقيقة، والحقيقة نسبية وليست أمرًا واقعيًا. المدرسة العلمانية تقرر أن الحقيقة دائمًا أمر نسبي، لا توجد عندنا حقيقة مطلقة، الحقيقة دائمًا أمر نسبي، إذن إذا كانت الحقيقة أمرًا نسبيًا، فالرأي الموافق للحقيقة أيضًا أمر نسبي، فالرشد أمر نسبي وليس أمرًا حقيقيًا.
ولذلك نرى أن المجتمعات تختلف في كثير من المفردات السلوكية، نرى كثيرًا من المجتمعات تختلف في الموازين، مما يدل على أن الرشد أمر نسبي، وليس أمرًا حقيقيًا، فمثلًا: أنت عندما تشاهد برنامج ”للنساء فقط“ في قناة الجزيرة، هذا البرنامج يتحدث هذا الأسبوع عن قانون الأحوال الشخصية بالنسبة للمرأة، هناك نزاع على أشده في المغرب العربي بين العلمانيين والإسلاميين في قانون الأحوال الشخصية بالنسبة للمرأة، العلمانيون يصرون على المساواة بين الرجل والمرأة في تمام الوظائف، كما أن الرجل من حقه أن يطلّق المرأة، المرأة من حقها أن تطلّق الرجل في أي وقت، كما أن المرأة وظيفتها الحضانة والأمومة، فالأب أيضًا وظيفته الحضانة كما هي وظيفة الأم، فهناك مساواة بين الرجل والمرأة في تمام الوظائف، والإسلاميون يرفضون ذلك.
نحن لا نريد أن ندخل في هذا النزاع، وإنما نريد أن نقول: العلمانيون يقولون: المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والوظائف مفردةٌ تختلف فيها المجتمعات، فبعض المجتمعات تقبلها، وبعض المجتمعات ترفضها، وهذا دليل على أنه ليست هناك حقيقة مطلقة، بل الحقيقة دائمًا أمر نسبي، فالرشد أمر نسبي. بعض المفردات تتناسب مع بعض المجتمعات، وبعض المفردات تتخالف مع بعض المجتمعات، فالحقيقة نسبية، وليست هناك حقيقة مطلقة.
لاحظوا فرويد رائد المدرسة التحليلية في علم النفس، فرويد يقول: الرشد هو عبارة عن مكتسبات أسرية وضغوط اجتماعية، فإذا كنا نعيش في مجتمع يفرض الحجاب على المرأة، فالرشد هو أن تلتزم المرأة بالحجاب، وأما إذا كنا نعيش في مجتمع منفتح من هذه الجهة، فالرشد هو ألا تلبس المرأة الحجاب، فالرشد مفاهيم مكتسبة، وضغوط اجتماعية، توجب بعض الرواسب والمفاهيم في ذهنيات أفراد المجتمع.
سارتر رائد المدرسة الوجودية يقول: الرشد هو عبارة عما يحقّق لك كسبًا، فكل ما يحقق لك كسبًا فهو رشد، ولذلك لو كان الصدق يحقّق لك مكاسب مادية فالصدق رشد، وأما إذا كان الكذب والغش هو الذي يحقّق لك المكاسب المادية، فالرشد في الكذب، ما يحقق لك المكاسب هو الرشد، وليس شيئًا آخر. الخلاصة: النظرية العلمانية تقرّر أن الرشد أمر نسبي؛ لأن الحقيقة أمر نسبي.
وأما النظرية الإسلامية، نظريتنا، مدرستنا، ماذا تقرر؟ هنا ثلاثة أمور إذا اتضحت يتضح دليلنا وبرهاننا على أن الرشد أمر واقعي وليس أمرًا نسبيًا، الرشد أمر واقعي لا يختلف باختلاف الأشخاص والظروف.

الأمر الأول: رجوع العرضي للذاتي.
الفلاسفة يقولون: ما بالعرض يرجع إلى ما بالذات، العرضي يقبل التعليل، والذاتي لا يقبل التعليل، ما معنى هذه العبارة الفلسفية؟ نحن إذا وضعنا الماء على النار، الماء يكتسب الحرارة فيصبح حارًا، هناك فرق بين حرارة النار وحرارة الماء، حرارة الماء حرارة عرضية، حرارة اكتسابية، جاءت للماء من شيء آخر، حرارة الماء نسميها حرارة بالعرض، يعني حرارة اكتسبها الماء من شيء آخر، أما حرارة النار فلم تكتسبها النار من شيء آخر، فنسميها بالذات، حرارة النار حرارة بالذات لأنها غير مكتسبة من جسم آخر.

لأن حرارة الماء بالعرض، وحرارة النار بالذات، لذلك حرارة الماء تقبل التعليل، فنستطيع أن نجعل لها علة، ما هي علة حرارة الماء؟ تقول: السبب في حرارة الماء هي حرارة النار، بينما حرارة النار لا تقبل التعليل، لا يصح أن يقال: لماذا أصبحت النار حارة؟! هذا أمر ذاتي لا علة له، النار خلقت حارة، خلقت وطبعها الحرارة، فالشيء العرضي يقبل التعليل، وأما الشيء الذاتي فلا يقبل أن نضع له سببًا وعلة، فحرارة الماء علتها حرارة النار، أما حرارة النار فليس لها علة، النار هكذا حارة، النار طبعها حارة، خلقت حارة، وهذا معنى ما بالعرض يرجع لما بالذات، وما بالعرض له علة، وما بالذات لا يقبل التعليل.

الأمر الثاني: انقسام القضايا إلى أولية وثانوية.
القضايا على قسمين: قضية أولية، وقضية ثانوية. القضية الأولية لا تقبل الجدل، هي الحقيقة المطلقة، القضية الأولية هي القضية التي نسميها بالحقيقة المطلقة، فهي قضية لا تقبل الاختلاف ولا الجدل، فمثلًا: ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، استقرار الحياة الاجتماعية أمر ضروري، هذه قضية، هل تقبل الجدل؟! هل تقبل النقاش؟! هل يناقش فيها أحد؟! استقرار النظام الاجتماعي أمر مطلوب، هذه قضية لا تقبل الجدل والنقاش.
كل مجتمع من المجتمعات له مصالح شخصية ومصالح عامة، وقد تتزاحم المصالح الشخصية مع المصالح العامة، فمثلًا: أنا من مصلحتي الشخصية أن أحرق، في بيتي ساحة كبيرة، أنا من مصلحتي الشخصية أن أصنع في هذه الساحة موقدًا خشبيًا، وأطبخ عليه الأطعمة، هذا من مصلحتي الشخصية، لكن الموقد الخشبي يوجب تلوث البيئة؛ لأنه يوجب انتشار الدخان، وانتشار الدخان يوجب تلوث البيئة، فالمصلحة العامة ترفض ذلك، هنا يحصل تعارض بين مصلحتي الخاصة والمصلحة العامة، مصلحتي الخاصة أن أوقد الخشب في داري، المصلحة العامة ترفض ذلك. مصلحتي الخاصة أن أتاجر - والعياذ بالله - بالمخدرات؛ حتى أكتسب الأموال الطائلة، ولكن المصلحة العامة ترفض ذلك.
إذا تزاحمت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة فلا بد من نظام يتكفل الموازنة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، لأنه لو لم يوجد النظام المتكفل للموازنة بينهما فإن الحياة الاجتماعية لا تبقى مستقرة، بل تنتهي وتموت وتتبخر، والعقل يقول: لا بد من استقرار الحياة الاجتماعية. إذن استقرار الحياة الاجتماعية أمر مطلوب، وهذه القضية قضية ضرورية لا يختلف فيها أحد، لا يختلف فيها العقلاء جميعهم، هذا ما نسميه بالحقيقة المطلقة، جميع المجتمعات في جميع الظروف وفي جميع الأزمنة والأمكنة، جميع المجتمعات العقلائية تتفق على هذه القضية: ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، فهذه قضية ضرورية لا تقبل الجدل والنقاش، ولذلك نحن نعبّر عن هذه القضية الأولية بأنها حقيقة مطلقة، وهذه القضية نعبّر عنها بأنها مما بالذات.
يوجد قسم آخر من القضايا، وهي القضايا المتفرعة على هذه القضية، القضية الأولية هي استقرار الحياة الاجتماعية، هذه قضية أولية، خط عريض، تأتي قضايا متفرعة على هذه القضايا، فمثلًا: العدالة أمر مطلوب؛ لأجل استقرار الحياة الاجتماعية، فرجع ما بالعرض إلى ما بالذات. العدالة شيء مطلوب، لأنها ترجع إلى القضية الأولية، فإنها تؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية، واستقرار الحياة الاجتماعية مطلوب، إذن العدالة أمر مطلوب. كذلك العدالة، فإنها أمر مطلوب؛ لأنها تؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية. كذلك أيضًا الصدق والإخلاص في العمل، فإن هذا المجتمع الياباني الذي يعمل ليلًا نهارًا، عطله قليلة، عمله كثير، مواظب على الدقة والإتقان في العمل.. الصدق في العمل وإتقانه مطلوب؛ لأنه يؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية، واستقرار الحياة الاجتماعية مطلوب.
إذن عندنا قضية أولية، وهي استقرار الحياة الاجتماعية، هذه القضية الأولية خط عريض، هي المرجع، هي الأول، هي الحقيقة المطلقة، هي التي نسميها ما بالذات، وسائر القضايا ترجع إلى هذه القضية، القضايا الأخرى نسميها ما بالعرض، سائر القضايا ترجع إلى هذه القضية، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية. إذن يأتيك العلماني ويقول: الحقيقة أمر نسبي! نقول: هل استقرار الحياة الاجتماعية أمر نسبي؟! هل يوجد شخص يختلف في هذه القضية؟! أحضر لي شخصين من العالم كله يقولان بأن استقرار الحياة الاجتماعية ليس مطلوبًا! إذن استقرار الحياة الاجتماعية حقيقة مطلقة، وتتفرع سائر القضايا عن هذه القضية الأولية الضرورية.

 

الأمر الثالث: دور الرشد في استقرار الحياة الاجتماعية.

عرفنا أن هناك قضية ضرورية أولية، وهي استقرار الحياة الاجتماعية، ولكن أين هو الرشد؟ نحن نتحدث عن الرشد، فأين هو الرشد؟ كل رأي يتطابق مع القضية الأولية الضرورية فهو رشد، وكل رأي يخالف القضية الأولية الضرورية فهو غي، إذن عندنا قضية مسلَّمة معروفة، حقيقة مطلقة، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية، أي رأي يتفق مع هذه القضية فهو رشد، وأي رأي يختلف مع هذه القضية فهو غيٌّ، إذن فبالنتيجة: صار الرشد أمرًا واقعيًا، وليس أمرًا نسبيًا؛ لأن الرشد عبارة عن الرأي الصائب، أي: الرأي المتفق مع القضية الأولية الضرورية، وهي ضرورة استقرار الحياة الاجتماعية.
حتى عندما نختلف نحن مع العلمانيين مثلًا.. العلمانيون يقولون: لا بد من المساواة بين الرجل والمرأة في نظام الأحوال الشخصية، الرجل يطلق، والمرأة أيضًا تطلق، وإذا بك ترى زوجتك يومًا من الأيام تقول لك: مع السلامة، أنتَ طالق! كما أن للرجل حق الطلاق، كما ورد في الحديث عن النبي محمد  : ”الطلاق بيد من أخذ بالساق“، أي أن الطلاق بيد الرجل.
هنا مسألة أريد أن أنبه عليها وإن لم يكن لها ربط بالمطلب: الطلاق يمكن أن يكون بيد المرأة، الطلاق كما هو للرجل، يمكن أن يكون بيد المرأة، وذلك عن طريق الشرط في متن العقد، أي: عند عقد الزواج بين الرجل والمرأة، في نفس العقد تشترط المرأة على الرجل شرطًا، فتقول مثلًا: أشترط عليك إذا تزوجتَ زوجةً ثانيةً فأنا وكيلةٌ عنك في أنْ أطلّق نفسي منك في ذلك الوقت، وهكذا تحاصر الرجل! فإذا قال الرجل: قبلت، وقبل بالشرط مثلًا، فحينئذ المؤمنون عند شروطهم، فيلزمه الشرط، وهكذا تعمل المرأة بالوكالة، فتطلّق نفسها منه، بحضور شاهدين عادلين، في طهر لم تواقَع فيه، حسب شروط الطلاق المذكورة في الكتب الفقهية، فيمكن أن يكون الطلاق بيد المرأة عن طريق الشرط في متن العقد بالوكالة، وليس غرضنا أن ننبه النساء على هذا الأمر، وإنما غرضي الإجابة عما يثار في شاشات التلفزيون، وعما يثار في الصحف، من أن الإسلام يحرم المرأة في حق الطلاق.. الإسلام يمكن أن يضع للمرأة حق الطلاق بهذه الطريقة التي ذكرناها.
المهم: إذا قال العلمانيون مثلًا: نحن ندعو للمساواة بين الرجل والمرأة في الوظائف، والإسلاميون قالوا: الاختلاف الفسيلوجي والسكيلوجي بين الرجل والمرأة، يفرض الاختلاف في الوظائف، الاختلاف التكويني يفرض الاختلاف التشريعي، لماذا هذا الخلاف؟ العلمانيون يقولون: المساواة بين الرجل والمرأة تؤدي إلى استقرار حياة المجتمع، فرجعوا للقضية الأولية الضرورية، ونحن نقول: الاختلاف بين الرجل والمرأة في الوظائف هو الذي يؤدي إلى استقرار حياة المجتمع، فنحن متفقون على الكبرى الأولية، ومتفقون على القضية الأولية الضرورية، وإنما نختلف فيما يتفرّع عليها، وفيما يتبعها من القضايا الأخرى. إذن هناك حقيقة مطلقة، من أصابها فهو رشيد، ومن ضلَّ عنها فهو غويٌّ، نتفق عليها، وبناءً على هذا فالرشد أمرٌ حقيقيٌ، وليس أمرًا نسبيًا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة