من التاريخ

أم البنين وارثة الزهراء عليهما السلام (1)

 

الشيخ محمد العبيدان
الحديث عن السيدة الجليلة أم البنين(ع) حديث شيق، لأنه يتضمن تعريفاً بشخصية سكنت الوجدان الشيعي، بل سكنت وجدان كل من تعرف عليها، ولا ريب أن مرد ذلك لما عرف عنها من ملكات وصفات أوجبت أن تكون لها هذه المكانة، إلا أن ما يؤسف له أنه لا يوجد في ما كتب عنها في المصادر التاريخية، أو ما ألف حول شخصيتها من بحوث ما يشفي الغليل، ويروي العطشان، فإنه لا زالت الكثير من الجوانب في سيرتها تحتاج توقفاً وتأملاً، وسوف أسعى جاهداً في هذه الكلمات أن أسلط الضوء على شيء من تلك السيرة العطرة، علنا نتمكن أن نقتبس شيئاً منها نفيد منه في حياتنا العملية.
 

اسمها ونسبها:
من المعروف بين المؤرخين أن أسم وارثة الزهراء(ع) هو فاطمة، وأنها من آل الوحيد، وأهلها من سادات العرب وأشرافهم، وزعمائهم، وأبطالهم المشهورين، وأبوها شخص معروف لا يختلف فيه، نعم وقع الخلاف في اسمه، فقد ذكر أنه أبو المحل واسمه حرام-بالحاء المهملة، والراء المهملة- إلا أن الوارد في كثير من النسخ ذكره بالزاء المعجمة، وذكر أنه غلط قطعي[1]. وأمها هي ليلى بنت سهل بن مالك، وهو أبو البراء، ملاعب الأسنة[2].
وتعتبر قبيلتها من أشرف القبائل العربية شرفاً، وأجمعهم للمآثر الكريمة التي تفتخر بها سادات العرب، ويعترف لها بالسيادة، لكثرة النوابغ من الرجال المبرزين والزعماء الممتازين بأكمل الصفات الكريمة وأتم الخصال الممدوحة، كالكرم والشجاعة والفصاحة وغير ذلك[3].
 

ولادتها:
لم يذكر المؤرخون بالتحديد سنة لولادتها، فضلاً عن أن يكونوا قد حددوا يوماً لذلك، أو الشهر الذي حصلت فيه الولادة.
إلا أنه يمكن أن يعمد إلى تحديد سنة ولادتها من خلال ملاحظة مقدار عمر مولانا أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين(ع)، يوم واقعة الطف، وبالتالي تحديد سنة ولادته، فيمكن أن يعرف مقدار عمرها يوم ولادتها به(ع)، ولو تقريباً فيحصل من خلال ذلك تحديد سنة ولادتها.
ووفقاً لما ذكر، بنى بعض الباحثين على أن سنة ولادتها كانت في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة النبوية، وذلك لأن عمر أبي الفضل(ع) يوم واقعة الطف كان خمسة وثلاثين سنة، ما يعني أن ولادته كانت سنة خمسة وعشرين أو ستة وعشرين من الهجرة النبوية، على الخلاف في أن واقعة الطف كانت سنة ستين، أو سنة إحدى وستين من الهجرة.
وإذا قلنا بأن الحالة الطبيعية أن تكون المرأة مقترنة بزوجها في عمر لا يزيد على عشرين سنة، فهذا يعني أنها وقت ولادتها بابي الفضل(ع) كانت ما بين التاسعة عشر والعشرين، فتكون سنة ولادتها في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة النبوية.
والإنصاف، حسن الأسلوب الحسابي المتبع في عملية الوصول إلى تحديد سنة الولادة، إلا أن ما يمنعنا من القبول به، ولا أقل من التأمل فيه، أنه يستبعد أن تبلغ أم البنين(ع)، وهي تلك الفتاة التي ولدت في وسط اجتماعي متميز من أسرة ذات مكانة مرموقة، شهد لها الأوائل والأواخر، مضافاً لما ذكر في حسنها وجمالها، فضلاً عما ستسمعه من جمالها المعنوي والكمالي أيضاً، إلى هذا المبلغ من العمر، من دون أن تتزوج، وقد كانت العادة السائدة والمعروفة عند العرب، المسارعة إلى تزويج الفتيات، بل ازدحام الفرسان والشجعان على أمثال وارثة الزهراء(ع)، لما لها من ملكات ومقومات. وقد جاء الإسلام، ليؤكد على هذا الأمر أيضاً، ويدعمه بقوة، وبالتالي يكون بقائها إلى بلوغها تسعة عشر سنة، أو العشرين مانعاً من ترتيب أثر على كون سنة ولادتها ما ذكر.
هذا وسوف نستفيد من الطريقة التي ذكرت في استخراج سنة ولادتها السابقة، لكننا سوف نعمد على النـزول شيئاً ما، بأن نقول، إن الغالب في تلك الحقبة من العصر أن يكون زواج الفتاة لا يزيد على بلوغها الرابعة عشر، أو الخامسة عشر، بل ربما تزوجت الفتاة أصغر من ذلك بمجرد بلوغها، كما هو محكي ومنقول. وعليه، فإذا طرحنا من ذلك عمر مولانا أبي الفضل العباس(ع)، يوم واقعة الطف، لنستخرج سنة ولادته، أمكن القول أنها ولدت في السنة العاشرة من الهجرة تقريباً.
وهذا الوجه وإن كان بحسب الظروف الطبيعية متصوراً، ويساعد عليه، إلا أنه قد يمنع منه أنها(ع) قد زوجت بأمير المؤمنين(ع)، وهي لا تزيد على أربعة عشر أو خمسة عشر سنة، إلا أنها قد تأخرت في الإنجاب، فلم تنجب إلا بعد مضي عشر سنين من الزواج.
وهذا وإن كان محتملاً، إلا أن افتقاد المصادر التاريخية ولو للإشارة إليه من قريب أو بعيد، تجعله أمراً مستبعداً، فلاحظ.
وعليه، فإن الذي تركن إليه النفس أن ولادتها كانت في السنة العاشرة تقريباً من الهجرة النبوية، فتدبر.

إلفات مهم:
ولعل ما يدعونا إلى الإصرار على كون ولادتها في هذه السنة، وأنها يوم اقترنت بأمير المؤمنين(ع) لم يتعد عمرها الرابعة عشر أو الخامسة عشر، إبراز عظمتها وعلو كعبها على غيرها من نساء الإمام(ع) بعد الزهراء(ع)، فإن وارثة الزهراء(ع)، لو دخلت بيت أمير المؤمنين، وقد بلغت العشرين من العمر تقريباً فلن يكون غالباً لها فضل في المقام، ضرورة أن أمثالها في هذا العمر يكن قد بلغن من النضوج الشيء الكثير، فلا يكون لها بروز بين أقرانها، إلا أن دخولها دار أمير المؤمنين(ع)، وهي لم تزد على الرابعة عشر من العمر تقريباً، بما لها من ملكات وامتيازات خاصة، أهلتها لتكون وارثة الزهراء(ع)، ومن ثم تكون سيدة الدار مع وجود من كن أسبق منها سناً، ومكانة، يكشف عن عظمة هذه المرأة ومكانتها التي يلزم التوجه إليها، ومعرفة ما بلغته وأحاطت به، فلاحظ.
 

سبب التكنية:
ومما يلحظه القارئ لسيرة وارثة الزهراء(ع)، هو غلبة كنيتها أم البنين على اسمها، حتى كادت أن تكون الكنية علماً تعرف به، ذلك أنها تذكر به أكثر من ذكرها باسمها، فمن هو الذي أطلق عليها هذه الكنية، وأعطاها إياها؟
الموجود في المصادر التاريخية احتمالان، أو قولان في ذلك:
الأول: أن الذي كناها بأم البنين، هو أبوها حرام، تيمناً بجدتها ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، حيث كان لها خمسة أبناء أكبرهم أبو براء ملاعب الأسنة، وقد ذُكر لذلك حدث، فإن حراماً كان في سفر مع أصحابه، وقد نام فرأى في عالم الرؤيا أنه قد انعزل عن أصحابه ناحية في أرض خصبة وبيده درة يقلبها وهو متعجب من حسنها، وإذا به يرى رجلاً اقبل إليه من صدر البرية على فرس وسلم عليه، وسأله بكم تبيع هذه الدرة عندما رآها في يده، فقال له حرام بأنني لا أعرف قيمتها حتى أقدر لك ثمنها، لكن أنت بكم تشتريها، فقال له الرجل، أنا أيضاً لا أعرف لها قيمة، لكن أهدها إلى أحد الأمراء، وأنا الضامن لك بشيء هو أغلى من الدراهم والدنانير، فقال له ما هو، قال أضمن لك به عنده الحظوة والشرف والزلفى والسؤؤد أبد الآبدين، فقال له حرام: وتكون أنت الواسطة في ذلك. قال: وأكون أنا الواسطة أعطني إياها فأعطاه إياها.
فلما انتبه حرام وقص رؤياه على أصحابه وطلب تأويلها، فقال له أحدهم: إن صدقت رؤياك فإنك ترزق بنتاً ويخطبها منك أحد العظماء وتنال عنده بسببها القربى والشرف والسؤود.
وعند عودته من سفره بشروه بولادة زوجته ثمامة الحبلى، وأنها قد أنجبت له أنثى، فتهلل وجهه لذلك، وقال في نفسه قد صدقت رؤياي، وقال لهم أسموها فاطمة، وكنوها بأم البنين.
ولا يخفى أن رؤيا حرام من الرؤيا المبشرات التي أشير إليها في النصوص، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن، وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام[4]. فإنها لا تفيد معنى الحجية، وإنما تفيد البشارة للمؤمن بما سيكون له من أمر في المستقبل، وقد يقع وقد لا يقع، وعلى أي حال، وفقاً لهذا القول، فسوف تكون تكنية وارثة الزهراء(ع) بهذا الكنية من أبيها، وأنها كنيت بها قبل وصولها إلى بيت أمير المؤمنين(ع)، وقد كناها بها أبوها تفألاً بحسن حالها، لما رآه من رؤيا مبشرة له بذلك.
الثاني: أن الذي كناها بها هو أمير المؤمنين(ع)، بعدما زفت إليه، فإنها قد طلبت منه أن لا يناديها باسمها وهو فاطمة، لأنها كانت ترى الحسرة في عيون أبناء الزهراء(ع) عندما يسمعون اسم أمهم(ع) ويتذكرون ما جرى عليها من المصاب، فيألمون، ورأفة منها بأبناء رسول الله(ص) ورغبة منها في عدم إدخال الأذى عليه في ولده، سألت الإمام(ع) أن يسميها باسم آخر غير فاطمة، فأسماها بأم البنين.
ولا يوجد ما يوجب التوقف في القول المذكور، إلا ملاحظة العمر الزمني للإمامين الحسنين(ع) ولمولاتي الحوراء زينب(ع) يوم زفت أم البنين لأمير المؤمنين(ع)، فإنه وفقاً لما قويناه قبل قليل من أن ولادتها كانت في السنة العاشرة، فسوف يكون زفافها له في السنة الرابعة والعشرين تقريباً، وهذا يعني أن عمر الإمام الحسن(ع) في تلك الفترة ما ينيف على عشرين سنة، وكذلك الإمام الحسين(ع) وحتى مولاتي زينب(ع) قاربت على ذلك، ومن الطبيعي أن من بلغ هذا المقدار من العمر، يكون قد ارتفع عنه اليتم، وبدأ يعيش حياته الاعتيادية، خصوصاً وأنه يكون قد كون أسرة، واقترن بامرأة، فلن يكون ملتفتاً لمثل هذا الأمر كما هو واضح، وإن كان الفقيد مثل سيدتي الطاهرة الزهراء(ع) التي لا يمكن أن تنسى، فلاحظ.
وبالجملة، يبقى القول الأول أقرب للمقبولية من القول الثاني، مع أنه يمكن التوفيق بينهما بأن لا يكون أمير المؤمنين(ع) مستحدثاً لها هذا الكنية، وإنما أعاد لها ما كان كناها به أبوها، فلاحظ.


نشأتها:
وقد أختار الله سبحانه وتعالى لهذه المرأة الصالحة أن تنشأ في منبت طاهر، بين أبوين صالحين، عرف الأب منهما بالولاء لآل بيت محمد(ع)، وبالكرم والشجاعة والسؤدد، ورجاحة العقل بين قومه، والمكانة المرموقة، وكانت الأم ذات عفاف، وطهارة، وتقوى وإيمان، يربطها بأهل بيت العصمة والطهارة رابط الانتماء والولاء. ويمكن استكشاف هذا المعنى من حديث الخطبة، فإنه لما جاء عقيل(رض) يخطبها لأمير المؤمنين(ع) أنتشى أبوها فرحاً، إلا أنه خشي ألا تكون أبنته جديرة بزوجية أبي الحسن(ع)، فقال له: بخ بخ بهذا النسب الشريف والحسب المنيف، لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع بمصاهرة ابن عم رسول الله(ص)، وبطل الإسلام وقاسم الجنة والنار، ولكن-يا عقيل-أنت جدُ عليم ببيت سيدي ومولاي، إنه مهبط الوحي، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وأن مثل أمير المؤمنين(ع) ينبغي أن تكون له امرأة ذات معرفة عن علم، وآداب في ثقافة، وعقل مع أخلاق حسنة، حتى تكون صالحة لشأنه العالي ومقامه السامي، وإن ابنتنا من أهل القرى والبادية، وأهل البادية غير أهل المدينة، ولعلها غير صالحة لأمير المؤمنين(ع).
إن هذه الكلمات من الأب، الذي جاءه الشرف يسعى إلى بين يديه، وهو الذي يطلبه كل أحد تكشف عن عمق ولاء، وصدق انتماء، ومحبة خالصة لبيت أمير المؤمنين(ع)، ولسيده أبي الحسن(ع)، فإنه لو لم يكن كذلك لما كانت تصدر منه هذه الكلمات حرصاً منه على مصلحة بطل الإسلام، ورعاية لحقه، وملاحظة لحاجته، فهذا الرجل الصالح الموالي لآل علي(ع) يخشى ألا تكون ابنته جديرة بالاقتران بأمير المؤمنين(ع)، ولا صالحة أن تكون له زوجة. وكذلك عندما نتأمل في كلماته التي طرحها على زوجته عندما جاء يسألها عن أهلية ابنتها لمثل هذه الاقتران، وعن مدى أهليتها لتكون خادمة في هذا البيت الهاشمي.
ولا تقل زوجته عنه شأناً، فعندما جاء يسألها عن مدى أهلية ابنتها للزوجية بأبي الحسن(ع) أشارت إلى امتلاكها الأهلية، لقيامها بإعدادها إياها إعداداً خاصاً جعلها تمتلك تلك القابلية المطلوبة لمثل هذا الشرف، وهذه المسؤولية الجسيمة، قال حرام: هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك للإمام علي(ع)، وقد استمهلته حتى أسألك عن ابنتك، هل تجدين فيها كفاءة بأن تكون زوجة لأمير المؤمنين(ع)؟ واعلمي أن بيته بيت الوحي والنبوة والعلم والآداب والحكمة، فإن تجديها أهلاً لأن تكون خادمة في هذا البيت، وإلا فلا.
فقالت زوجته: يا حرام، إني-والله-ربيتها وأحسنت تربيتها، وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدها، وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين(ع)، فزوجها.
وكما أن زوجها أعتبر وارثة الزهراء(ع) خادمة لأمير المؤمنين(ع)، وفي بيتها وأن هذا غاية الشرف، كانت زوجته أيضاً تشاطره الرأي والمعتقد.
في ظل هذه الأجواء الإيمانية المفعمة نشأت وترعرعت السيدة الجليلة أم البينين(ع)، لترتشف من الأبوين المصالحين، عبق الولاء، والمحبة لآل علي(ع)، وترتبط بهم أيما ارتباط، وتنشأ بينها وبينهم علاقة خاصة. ولهذا لا عجب عندما نسمع كيف كانت معاملتها للإمامين الهمامين الحسنين(ع)، وكيف أنها أنشأت أبنائها بعد ذلك.
والتأريخ وإن لم ينقل لنا شيئاً عن هذه الحقبة من حياتها(ع)، إلا أنه يمكن تلمس مقدار ما كان يفرغ عليها من ولاء ومحبة لأهل البيت(ع) من المواقف التي حصلت في هذه المرحلة، فإن حال الفرح والاستبشار التي عمت العائلة، عندما جاء عقيل(رض) خاطباً إياها لأمير المؤمنين(ع)، وعلي(ع) بعد لم يتصد للخلافة الظاهرية، تكشف عن أن هذا البيت لم يكن كبقية السواد الأعظم من المسلمين، وأنه لم يكن يرتبط بأحد آخر غير بيت علي(ع)، وما كان يدين بولاء لسواه.
كما أن دورها الذي قامت به في بيت أمير المؤمنين(ع)، وقد انتقلت إليه عروساً يؤكد هذا المعنى، بل يدل عليه، فلاحظ.
 

صفاتها النفسانية:
وقد تحدثت المصادر التاريخية عن الصفات النفسانية التي امتلكتها مولاتنا أم البنين(ع)، فأشارت إلى ما حباها به خالقها سبحانه وتعالى من الملكات النفسانية، والصفات الكمالية، فقد كانت(ع) على قدر كبير من الذكاء، وقوة الحافظة، وحدة الذهن، كما أنها امتلكت حلاوة في التعبير وعاطفة جياشة وعذوبة في الحديث، وأعطيت قدرة على امتلاك قلوب السامعين، مما لو يتوفر لغيرها من النساء.
وقد كان لجمال المنظر، والخلقة وجوده أيضاً في شخصيتها، فقد أشير إلى أنها كانت على قدر عالٍ من الجمال، لتجمع إلى صفات الكمال المعنوي، وجود الجمال المادي، وتمتلك بذلك الحسنيـين.


رتبتها في زوجات أمير المؤمنين(ع):
من المعلوم أن أمير المؤمنين(ع) لم يعرف امرأة غير مولاتي الزهراء(ع) خلال حياتها، لأن النساء كن محرمات عليه خلال تلك الفترة، إلا أنه وبعد شهادتها(ع)، قد اقترن بمجموعة من النسوة، وقد وقع الاختلاف بين المؤرخين في أي منهن كانت أسبق، ومن التي لحقتها، ومن كانت آخر زوجاته، فقد أختار الطبري في تاريخه، وكذا ابن الأثير في كامله، أبو الفدا في تاريخه، وأبن الجوزي في التذكرة، أن أول امرأة أقترن بها أمير المؤمنين(ع) بعد شهادة الزهراء(ع)، هي السيدة أم البنين(ع)، بينما قال آخرون بأن أول امرأة أقترن بها هي أمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول الله(ص) والتي تزوجها أمير المؤمنين(ع) بوصية من السيدة الزهراء(ع) ليلة رحلتها عن عالم الدنيا.  وتزوج بأم البنين بعد زواجه من أمامة، لتكون أم البنين الزوجة الثانية له(ع).
وهناك قول ثالث أن أول زوجاته بعد الصديقة(ع) كانت أمامة، ومن بعدها كان زواجه بأسماء بنت عميس، وكانت أم البنين الزوجة الثالثة له(ع).
ولا يخفى أن شيئاً من الأقوال السابقة لم يتعرض لذكر خولة الحنفية، ولعل القائلين بنوا على أنها أمة، وليست حرة، مع أن المستفاد من النصوص التاريخية المعتمدة أن الإمام(ع) قد تزوجها، ولم يتعامل معها معاملة ملك اليمين، ما يجعلها في عداد زوجاته، كما لا يخفى.
وعلى أي حال، إن الذي يساعد عليه التأمل التاريخي أن تكون أم البنين(ع) هي رابعة زوجات أمير المؤمنين(ع) فإن أول زوجاته بعد رحيل مولاتي الطاهرة(ع) هي أمامة بنت أبي العاص، وبعدها تزوج (ع) بخولة الحنفية والدة محمد بن الحنفية، والتي جيء بها بعد مقتل قومها في حادثة استشهاد مالك بن نويرة المشهورة، سبية، وقد كان لاقتران أمير المؤمنين(ع) بها حادثة مشهورة، وبعد موت الرجل الأول، بنى أمير المؤمنين(ع) بأسماء بنت عميس، بعدما انقضت عدتها، وقد كان زواجه بوارثة الزهراء(ع) السيدة أم البنين بعد هؤلاء، لتكون هي الزوجة الرابعة له(ع).
ويساعد على هذا الترتيب مجموعة من القرائن، كالتأريخ الذي استقربناه في سنة ولادتها، وأنه في السنة العاشرة من الهجرة، فإنه لا ينسجم أن يكون زواجه(ع) بها قبل ذلك، مضافاً إلى الوصية المعروفة من السيدة الزهراء(ع) بالزواج من ابنة أختها زينب أمامة، وكذلك وصول خولة الحنفية في عداد الأسارى خلال حكم الرجل الأول، يمنع أن يكون زواجه(ع) بهما متأخراً عن زواجه بالسيدة أم البنين(ع).
 

الزواج الميمون:
وقد ذكرت المصادر التاريخية حواراً جرى بين أمير المؤمنين(ع)، وبين أخيه عقيل(رض)، يوم أراد الإقدام على الزواج والاقتران من أم البنين(ع)، ولا يهمنا نقل النص التاريخي للحوار، فإنه متداول في المصادر، ويكثر الاستماع إليه من ألسنة الأخوة الخطباء، وإنما الذي يهمنا في المقام، هو تسليط الضوء على تساؤل يثار حول لجوء الإمام(ع) لمثل هذا الأمر، وهو العالم بالقضايا الغيبية، ويعلم بطرق السماوات كعلمه بطرق الأرض، بل أكثر، فكيف نتصور ممن يكون محيطاً ومطلعاً على غيبيات السماء، ومطلعاً على علم الغيب، أن يسأل أحداً أن يرشده لامرأة تصلح أن تكون زوجة له وفقاً لما تمتلكه من مواصفات؟
إن الغالب في الإجابة على مثل هذا التساؤل، تنصب على أن الإمام علي(ع) أراد إرشاد المجتمع الإسلامي إلى هذه الناحية المهمة، المتمثلة في كيفية اختيار الزوجة، وما هي السبل والوسائل التي تتبع في مثل هكذا موارد، وبيان الصفات التي يلزم أن تكون مطلباً لكل من أراد أن يتزوج امرأة من النساء، لما للزوجة الصالحة من دور أساس في بناء الكيان الأسري، وإعداد المجتمع الصالح.
ولا يخفى أن الإجابة المذكورة وإن كانت حسنة، إلا أنه لا نتصور أن يكون الهدف الأساس من الحوار المذكور منحصراً فيها، ذلك أنه يمكن للإمام(ع) أن يقدم الأمور المذكورة في إحدى خطبه أو بياناته التي كانت تلقى على الأمة بين فينة وأخرى، كما أنه يمكنه أن يوصل ذلك من خلال ما كان يقوم به من عملية تعليمية للمجتمع الإسلامي خلال مدة حكم الرجال الثلاثة الذين سبقوه في الخلافة الظاهرية.
والإنصاف، إن الحوار المذكور يشير إلى معنى آخر، أبعد وأعمق مما ذكر جواباً، كما لا يخفى.

والذي أتصور أن الغاية التي أريد إيصالها من خلال الحوار المذكور هو تقديم تعريف للوسط الاجتماعي بشخصية السيدة أم البنين(ع) من خلال عرض ما تتميز به من سمات وملكات نفسانية خاصة لا توجد عند غيرها من النساء، ما يوجب لها وجوداً متميزاً ومكانة خاصة، ولم يجد أمير المؤمنين(ع) وسيلة أفضل من هذا الأسلوب وهو الذي يوازي اليوم الجانب الإعلامي في المجتمعات المدنية، فإن حديث عقيل(رض) عن المرأة وعرض ما يميزها سواء في النسب من جهة، أم في المكانة الاجتماعية من جهة أخرى، أم التربية والأدب من جهة ثالثة، أم في عنصر الجمال والكمال في جهة رابعة، أم في حسن الخلق، والسمت، وغير ذلك، سيكون مورداً لأن تسير به الركبان، ومن الطبيعي أن يكون هناك أشخاص أصحاب فضول، سوف يسألون عن صحة، بل عن دقة المعلومات التي ذكرها عقيل، خصوصاً وأن الزوج الخاطب ليس شخصاً عادياً بل هو أمير المؤمنين(ع)، ولو التفتنا أكثر إلى أن دواعي الخطبة ليست مجرد الاقتران بالنساء، وحب العلاقة الطبيعية، بل هناك سبب غاية في الأهمية، يستهدف الحصول عليه من خلال هذه الزيجة، يتمثل في وجود عقب بمواصفات خاصة.
وبالجملة، إن ملاحظة هذا تكشف عن أن الغاية كانت ما ذكرناه، وليست الغاية ما ذكر جواباً، فلاحظ.
ولا يذهب عليك أن هذا الذي استظهرناه من النص السابق، يساعد على استظهار أمر أهم وأبعد، وهو أن هذه المرأة ليست امرأة عادية، كبقية النساء، بل إن لها امتيازاً سماوياً، يتمثل في كونها مصطفاة ومنتخبة مختارة، إذ أنها معدة أساساً لأداء مهمة خاصة، ومكلفة بالقيام بها، ما يوجب أن يحصل لها ما ذكر، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أختار لأمير المؤمنين(ع) الزواج بها، لتقوم بما أوكل إليها من مهام، فلاحظ.
ــــــــــــــــــ
[1] بطل العقمي ج 1 ص 111-112.
[2] المصدر السابق ص 112.
[3] المصدر السابق ص 116.
[4] الكافي ج 8 ص 90 الرؤيا على ثلاثة وجوه ح 60.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة