قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جوادي آملي
عن الكاتب :
ولد عام 1351 هـ بمدينة آمل في إيران، أكمل المرحلة الإبتدائية ودخل الحوزة العلمية في مدينة آمل، وحضر دروس الأساتذة فيها لمدّة خمس سنوات، وفي عام 1369 هـ سافر إلى مدينة طهران -التي تُعدُّ محطَّ تدريس كثير من العلماء والفلاسفة- لإكمال دراسته الحوزوية، وبدأ بدراسة المرحلة العليا في المعقول والمنقول في مدرسة مروي العلمية، وواصل دراسته حتّى عام 1374 هـ، ثمّ سافر بعدها إلى مدينة قم المقدّسة لمواصلة دراسته الحوزوية. من أساتذته: السيّد محمّد حسين الطباطبائي، الشيخ هاشم الآملي، والإمام الخميني.

ظهور الملكيّة المطلقة في القيامة (1)

 

الشيخ جوادي آملي
يؤكّد القرآن الكريم في عدد من الآيات نسبة مِلك ومُلك عالم الخلق إلىٰ الله سبحانه كما في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير﴾[1]، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾[2] فالآية الأولىٰ تدور حول حكومة الله علىٰ السماوات والأرض، والآية الثانية الّتي تثبت أنّ المِلك والمُلك المطلق في يوم الدين لله، تشعر من خلال تعبيرها بعظمة القيامة فتقول: إنّ في ذلك اليوم لاملكية لأحد في أيّ شيء، فلا أحد يملك أفعاله حتّىٰ يكون أمره نافذاً فيها ولا يملك أفعال الغير، ولا يكون مسلّطاً علىٰ شؤونهم، بل إنّ الملكيّة لجميع الأعمال وتدبير وإدارة جميع الشؤون هي لله.
وعليه فإنّه سواء كان في يوم الدين أو في غيره فإنّ المِلك والمُلك مختصّ بالله سبحانه ولا شريك له، وليس الأمر في مقام الثبوت أنّ المِلك والمُلك مقسّم وموزّع، بل إنّ البحث مرتبط فقط بمقام الإثبات، أي أنّنا لا نعلم اليوم أنّ الأمر بيد من، لكن في يوم القيامة الّذي هو يوم ظهور الحق: ﴿ذٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقّ﴾[3] سوف يتبيّن أنّ الأمر كان بيد آخر، والإنسان أحياناً يخدع نفسه بحجّة (الاعتماد علىٰ النفس)، وتارة بعنوان (التشكّر من المخلوق) فيلجأ إلىٰ الآخرين ولكن غدًا يعلم بأنّ الأمر كان ولم يزل بيد الله وحده، والعلل والأسباب الظاهريّة جميعها من شؤون فاعليّة الله سبحانه، ونحن نرىٰ أواسط السلسلة فقط ونغفل عن بدايتها وأصلها، ولهذا نحسب أنفسناً أو غيرنا فاعلين، ولأجل أن نضفي علىٰ الاعتماد علىٰ غير الله صبغة دينيّة ندخله تحت عنوان أنّ من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق[4] ونبرّر بذلك شكرنا للآخرين.


وعلىٰ هذا الأساس فإنّ (يومئذٍ) في قوله: ﴿والأمر يومئذٍ لله﴾ ظرف انكشاف الحقّ، لا ظرف الاختصاص أو الملكيّة، وهذه الآية ناظرة إلىٰ مقام الإثبات والكشف لا الثبوت والتحقّق، وهذا هو مسلك التوحيد الأفعاليّ، الّذي يصبح بمقتضاه كلّ انسان بل كلّ فاعل آخر درجةً من درجات فاعليّة الله سبحانه وشأناً من شؤون فاعليّته، والماء والطعام اللذان يرفعان العطش والجوع والنار الّتي هي مصدر الحرارة والدواء الّذي هو وسيلة للشفاء، جميعها من الشؤون الفعليّة ومن درجات فاعليّة الله، وليس لها أيّ نحو من الاستقلال في التأثير والفاعليّة، لأنّ الأفعال لم تُفوّض إليها، والفاعليّة الإلٰهيّة ومقام فعل الله تعالىٰ أمر غير محدود، ولهذا يمكن أن تنسب له جميع الأفعال ومن جملتها الشفاء كما في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين﴾[5] لأنّ الله سبحانه في مقام الفعل (لا في مقام الذات) يشفي المريض بالدواء، والإنسان أيضاً في أفعاله درجة من درجات فاعليّة الله سبحانه.[6]
ففي القيامة إذن يتّضح أنّ الله سبحانه كان ولا يزال وسيبقىٰ هو الحاكم المطلق، وهذا المعنىٰ يستفاد أيضاً من آيات أخرىٰ مثل:
أ. ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار﴾[7]، في ذلك اليوم يأتي السؤال لمن اليوم الملك والسلطان، وهذا لا يعني أنّ الملك والسلطان كانا بالأمس ملكاً للآخرين، والجواب هو أنّ الحكم والسلطان مختصّ بالله الواحد القهّار.
ب. ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقّ﴾[8] هذه الآية الكريمة تصف الله (بالمَلِك) بنحو مطلق، وعليه فلا يمكن أن يفرض أنّه لم يكن في الدنيا مَلِكاً نافذ الحكم. فهو مالك الملك والسلطان، يؤتي الملك تارة وينزعه أخرىٰ، مثلاً يجعل الإنسان مالكاً للسمع والبصر: ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَار﴾[9] والمالك الحقيقيّ لعين وأذن الإنسان هو الله سبحانه، وملكيّة الإنسان لأعضائه وجوارحه هي بتمليك من الله له، ومتىٰ ما شاء انتزعها منه، وحينئذ لا يأذن له حتّىٰ بأن يغمّض عينه المفتوحة، فعلىٰ الرغم من أنّ غمض العيون من أبسط وأهون الأفعال في الظاهر، لكن مع ذلك فإنّ البعض عند الاحتضار يعجز حتّىٰ عن غمض عينيه ويموت وهو مفتوح العينين.
وعلىٰ هذا فإنّ سلطان ونفوذ أمر الله (يظهر) في القيامة لا أنّه (يحدث)، وإن كانت هذه الحقيقة منكشفة لبعض الناس في هذه الدنيا أيضاً، فالموحّد الكامل يرىٰ الآن ما يراه الآخرون بعد الموت. وأدعية الأئمّة المعصومين تدلّ علىٰ أنّهم كانوا يرون في الدنيا حقيقة: ﴿وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾ وهذه ثمرة التوحيد الأفعاليّ. فالإمام الرضا (عليه السلام) يقول في سجود صلاته لله سبحانه: «لك الحمد إن أطعتك ولا حجّة لي إن عصيتك ولا صنع لي ولا لغيري في احسانك ولا عذر لي إن أسأت، ما أصابني من حسنة فمنك يا كريم اغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات».[10]
ج. ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾.[11]

 

ـــــــــــــ
[1] . سورة البقرة، الآية 107.
[2] . سورة الانفطار، الآيات 17 ـ 19.
[3] . سورة النبأ، الآية 39.
[4] . يقول الإمام الصادق (عليه السلام) حول الآية الكريمة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاّ وَهُم مُشْرِكُون﴾ (سورة يوسف، الآية 106): «هو الرجل يقول: لولا فلان لهلكت ولولا فلان لأصبت كذا ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترىٰ أنّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟» ثمّ أنّ الراوي يسأل الإمام إذا قلت: لولا أنّ الله منّ عليّ بفلان لهلكت فكيف ذلك فقال (عليه السلام): «لا بأس بهذا» (نور الثقلين، ج2، ص476). ومن هذا القبيل التعبير المشوب بالشرك المتداول بين الناس وهو قولهم الله أوّلاً وأنت ثانياً؛ لأنّ الله أوّل لا يمكن أن يفرض له ثان: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن﴾ (سورة الحديد، الآية 3). إذن فطبقاً لتوصيات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) عندما تريد أن تتكلّم مع من أحسن إليك من الناس فينبغي أن تقول الشكر لله الّذي أحسن إليّ عن هذا الطريق ولو شاء أن يجعله من طريق آخر لفعل. وعلىٰ أساس التوحيد يجب الاعتقاد بأنّ كلّ نعمة هي من الله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ (سورة النحل، الآية 53). وبهذه الرؤية لا تضفىٰ القيمة علىٰ الذات تحت عنوان: (الاعتماد علىٰ النفس) ولا تضفىٰ القيمة علىٰ الآخرين بذريعة (التشكّر من المخلوق). وأمّا معنىٰ الحديث المعروف: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين، لم يشكر الله عزّ وجلّ» وكما مرّ ذكره فهو أنّ المحسنين مظاهر للإحسان الإلٰهيّ وإذا لم يشكر المتنعّم مظهر إحسان وليّ النعمة فإنّه لم يشكر وليّ النعمة. فالشكر من المخلوق (بما هو مخلوق) محمود، وبدون لحاظ حيثيّة كونه مخلوقاً فالشكر غير محمود.
وجدير بالذكر أنّ قوله (مشركون) في آية (وما يؤمن...) غير (الّذين أشركوا) لأنّ (الّذين أشركوا) في مقابل المؤمنين وهم الوثنيّون وسائر عبدة الأصنام.
[5] . سورة الشعراء، الآية 80.
[6] . التوحيد الأفعالي غير الجبر؛ فالله سبحانه خلق الإنسان موجوداً ذا بُعدين وجعله في مفترق طريقي الخير والشرّ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾ (سورة البلد، الآية 10) وكلّ واحد من هذين الطريقين له عاقبة ونتيجة واضحة. وجعل العقل والنقل أيضاً دليلين علىٰ الصراط المستقيم. فإذا انتخب الإنسان بحسن اختياره طريق الخير، فهذا العمل الخير من حيث انّه أمر وجوديّ وكمال ونعمة مرتبط بالله، أمّا إذا سلك طريق الشرّ وعصىٰ، فحيث إنّ الذنب والمعصية ليست إلاّ فقداناً ونقصاً وعدماً فهي ليست مرتبطة بالمبادئ العالية. إذن فالخيرات الّتي هي كمال وجوديّ ترجع إلىٰ الربوبيّة، والشرّ والنقص ليس لهما مبدأ بالذات، وسوف يأتي هذا البحث في تفسير الآية 79 من سورة النساء إن شاء الله سبحانه.
[7] . سورة غافر، الآية 16.
[8] . سورة طه، الآية 114.
[9] . سورة يونس، الآية 31.
[10] . البحار، ج49، ص117.
[11] . سورة المائدة، الآية 120.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة