قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

كيف يقول: ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ وهو لم يمت؟

الشيخ محمد صنقور

قولُه تعالى على لسان نبيِّ الله عيسى: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾(1) ويقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2).

كيف يقولُ عيسى: ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ مع العلم أنَّ عيسى (ع) رُفع إلى السماء ولم يمُت ؟

الجواب:

التوفِّي لا يعني الموت دائمًا في استعمال القرآن الكريم، ولذلك قال اللهُ تعالى في سورة المائدة: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾(3) فالتوفِّي في هذه الآية استُعمل بمعنى النوم بل إنَّ الآية المذكورة في السؤال استعملت التوفِّي في كلٍّ من الموت والنوم، قال تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فاللهُ تعالى يتوفَّى الأنفس حين الموت وحين النوم ولكنْ مَن قضى عليه الموت يُمسكُ نفسه عنده أي يقبضها إليه، والنفسُ التي لم يقضِ عليها الموت يُرسلُها إلى أجلٍ مسمَّى، فالقرآنُ الكريم استعمل كلمةَ التوفِّي في حالتي الموت والنوم.

ومِن ذلك يتَّضح أنَّ التوفِّي ليس هو الموت وليس هو النوم وإنَّما هو أمرٌ يقعُ عند الموت ويقعُ عند النوم، ويُؤيِّد ذلك قولُه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾(4) فالموتُ يقعُ على الإنسان فإذا وقع توفَّته رسلُ الله وهم الملائكة، فالموتُ شيءٌ آخر غير التوفِّي، فالموتُ هو تلك الحالة التي يفقدُ معها الإنسان الحياة، وأمَّا التوفِّي فقد يقعُ عند فقدِ الإنسان للحياة وقد يقعُ دون أنْ يفقدَ الإنسانُ حياتَه في هذه الدنيا كما في النائم فإنَّه متوفَّى ولكنَّه لم يمُتْ ولم يفقدْ حياته.

وعليه لا يكونُ بالضرورة معنى قوله: ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ هو أمتني فلا يكونُ ذلك منافيًا لما هو معروف من أنَّ عيسى (ع) لم يمُت حين فارق قومه وإنَّما رُفع إلى السماء وسوف يعودُ إلى الأرض ثم يموتُ بعدها.

ولمزيدٍ من البيان نقول:

التوفِّي في الإستعمال اللُّغوي - من الاستيفاء- يأتي بمعنى الإنهاء والإتمام فيُقال استوفى السجينُ مدَّته أو عقوبتَه أي أنَّه أنهى وأتمَّ مدَّة الحكم والعقوبة المقرَّرةِ عليه، ويأتي الاستيفاء بمعنى أخْذِ الشيء تامًّا كاملًا غير منقوص فيُقال: استوفى زيدٌ حقَّه أو دينَه من غريمِه بمعنى أنَّه أخذه تامًّا كاملًا غير منقوص، ويُقال لمَن قبضَ بضاعته أو بيتَه الذي اشتراه أنَّه استوفاه وتسلَّمه، فالتوفِّي والاستيفاء يأتي بمعنى القبض والتسلَّم. فيقال استوفيتُ وديعتي من زيد أي تسلَّمتها منه وقبضتُها.

فتوفِّي الأنفس معناه أخذُها وقبضها ولكنَّه القبض والأخذ المناسب لطبيعة النفس، فكلُّ قبضٍ بحسبِه، فالتوفِّي ليس بمعنى الإماتة بل هو بمعنى القبض والأخذ، ولذلك قال الله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فالأنفسُ تُقبضُ من قِبَل الله تعالى في حالتي الموت والنوم غايتُه أنَّ الأنفس التي قُضي وقُدِّر لها الموت يتمُّ إمساكها بعد القبض وأمَّا الأنفس التي لم يُقدَّر لها الموت فإنَّها تُرسلُ بعد القبض كما يُرسل الطير ويُخلَّى سبيلُه بعد القبض عليه، فالنفسُ في كلٍّ من حالتي الموتِ والنوم يتمُّ أخذُها والقبضُ عليها ولكنَّها لا تعودُ ولا يُخلَّى عنها في ظرف الموت، وأمَّا التي لم يُكتبْ عليها الموت فإنَّه يتمُّ الإخلاءُ لسبيلها، وهذا معناهُ أنَّ التوفِّي ليس بمعنى الموت.

ومِن ذلك يتَّضح أنَّ قوله: ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ ليس بمعنى أمتني وإنَّما هو بمعنى الأخذ والقبض، والأخذُ والقبض يكونُ بالإماتة ويكون بغير الإماتة كما في النائم، فإذا دلَّت الروايات على أنَّ عيسى (ع) لم يمُتْ بالنحوِ الذي يحصلُ لسائر الناس فإنَّه يتعيَّن استظهار أنَّ المراد من توفِّي عيسى هو قبضه ورفعه بغير إماتة.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ توفِّي النفس يعني أخذها وقبضها، والأخذُ والقبض قد يكون مع الإماتة وقد يكونُ من غير إماتة، وعليه فتحديدُ أنَّ التوفِّي والقبض كان بنحو الإماتة أو كان دون إماتة يُعرفُ من ملاحظة القرائن، ولأنَّ القرائن - بحسب الفرض - وهي الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته(ع) دلَّت على أنَّ التوفِّي لعيسى لم يكن بنحو الإماتة لذلك يتعيَّن البناء على أنَّ المراد من ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ هو القبضُ لعيسى بغير إماتة، فتوفِّي الله تعالى لعيسى (ع) يعني أنَّه تعالى قبضه من الأرض وصيَّره عنده في سمائه أو محلِّ كرامته كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾(6) فعيسى قد توفَّاه الله ولكن ليس بمعنى أماته بل بمعنى قبضَه إليه ورفعه من بين قومِه سليمًا معافى لم يقع عليه قتلٌ ولا صلْبٌ كما توهَّم اليهود وكما توهَّم النصارى بعدهم.

هذا هو الجواب الأول وهو مبنيٌّ على أنَّ عيسى (ع) لم يمت وأنَّه ما زال على قيد الحياة كما هو شأن سائر الأحياء من البشر في هذه النشأة.

وهنا جوابٌ آخر وهو أنَّ عيسى (ع) قد مات منذُ فارقَ قومَه من بني إسرائيل وأنَّ معنى ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ هو أنَّه تعالى قد قبضَه قبضَ إماتة غايته أنَّ الله تعالى سوف يُرجعُه إلى حياة الدنيا في آخر الزمان ويُصلِّي خلف مهديِّ هذه الإمة (ع) كما نصَّت على ذلك الكثيرُ من الروايات الواردة من الفريقين، فهذه الروايات التي تحدَّثت عن نزول عيسى لا تنفي موته بعد الرفع وإنَّما هي متصدِّية لإثبات أنَّه سيعود إلى الحياة الدنيا في آخر الزمان.

وأمَّا قولُه تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ فهو بصدد نفي ما زعمَه اليهود من أنَّ عيسى قد فارقَ الحياة بواسطة القتل والصلب، فالآية تنفي أنَّهم قتلوه وصلبوه وتُثبتُ أنَّ الله تعالى قد رفعَه إليه لكنَّها لا تقول إنَّه لم يمُت بعد الرفع، فهو قد رُفع بجسدِه من بينهم وخفِيَ عليهم أثرُه هذا صحيح ولكنَّه هل ظلَّ حيًّا بعد الرفع فلم يمُت حتى هذه الساعة أو لا ؟ فهذا ما لم تتصدَّ الآيةُ لبيانه، فلا تكونُ هذه الآية منافيةً لمثل قوله تعالى: ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ بناءً على أنَّ المراد منها التوفِّي بالإماتة وكذلك ليست منافيةً لقوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ﴾ بل إنَّ هاتين الآيتين تدلَّان على موته فعلًا، وذلك لأنَّ التوفِّي وإنْ كان يُستعمل في القبض دون إماتة ولكنَّ الظهور الأولي للتوفِّي هو القبض بنحو الإماتة مالم تقم قرينة على إرادة غير ذلك، وهنا لا توجد قرينة على إرادة التوفِّي بالقبض دون إماتة، إذ أنَّ آية ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ لا تدلُّ على أكثر من نفي الموت بالقتل والصلب فيتعيَّن الظهور في إرادة الموت من قوله ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ وقوله ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ نعم دلَّت الرواياتُ على أنَّ عيسى سيعودُ إلى الحياة الدنيا في آخر الزمان فيكونُ نصيرًا للإمام المهدي (ع) وهذه لا تدلٌّ على أنَّه لم يمُتْ، إذ أنَّ الرجوع إلى الحياة الدنيا قد يتحقَّق بعد وقوع الموت.

وممَّا يُمكن التأييد به لدعوى أنَّ عيسى (ع) قد مات بعد الرفع هو ما رواهُ الشيخُ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسندٍ موثَّق عن عليِّ بن الحسن بن علي بن فضَّال عن أبيه عن أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا (ع): "... فإنَّه ما شبِّه أمرُ أحدٍ من أنبياء الله وحججِه للناس إلا أمرُ عيسى بن مريم عليه السلام وحده لأنَّه رُفع من الأرض حيًّا وقبضَ روحه بين السماء والأرض ثم رُفع إلى السماء ورُدَّ عليه روحُه وذلك قول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ﴾ وقال عزَّ وجلَّ حكايةً لقول عيسى عليه السلام يوم القيامة: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾(7).."(8).

فإنَّ قوله (ع): "وقبضَ روحه بين السماء والأرض" ظاهرٌ في وقوع الموت عليه كما أنَّ الفقرة التي سبقتها ظاهرةٌ في أنَّ عيسى رُفع مِن الأرض حين رُفع حيًّا وأنَّ قبْضَ روحه وإمامتته قد وقع بعد الرفع ثم إنَّ روحَه عُرجَ بها إلى السماء وهناك عادت إليه الحياة ولكنَّها ليست حياة الدنيا بل هي الحياة التي ينعمُ بها الأنبياءُ والشهداء. ويُؤكِّد استظهار أنَّ الإمام الرضا (ع) أراد من قوله: " وقبضَ روحَه بين السماء والأرض" وقوع الموت على عيسى (ع) هو استشهاده (ع) بآية: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ وآية: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ وبذلك يكونُ معنى التوفِّي بناءً على هذه الرواية هو القبض مع الإماتة.

 ــــــــــــــــــ

1- المائدة/117.

2- الزمر/42.

3- الأنعام/60.

4- الأنعام/61.

5- آل عمران/55.

6- النساء/157-158.

7- المائدة/117.

8- عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 193.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة