علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (7)

د جاسم العلوي

هيدغر والمبدأ الانساني
يرى هيدغر في كينونة الوجود البشري مشروعًا لفهم حقيقة الوجود بشكل عام. قام هيدغر بالتحاليل الفينومنولوجي للوجود الإنساني ووجد أن أول مقومات الكينونة أي الوجود الإنساني في أنه منفتح على العالم. الموجود البشري حقيقة متفتحة على الوجود العام وهو بكل ميوله وعواطفه ومقاصده موجه نحو العالم الخارجي. الإنسان هو الموجود الوحيد الذي لا ينفصل وجوده بالاهتمام بهذا الوجود. وأن العالم يمثل بناء أنطولوجيًّا للموجود البشري بحيث يستحيل أن يكون هناك عالم بدون إنسان أو إنسان بدون عالم.

ابن رشد ودليل العناية
إن لدليل العناية في إثبات الصانع مقدمتان:
المقدمة الأولى: أن جميع ما في الكون من موجودات وحركات، ليل، نهار، شمس، قمر …الخ هي موافقة لوجود الإنسان.
المقدمة الثانية: ترتكز على أن هذه الموافقة ضرورة اقتضتها إرادة فاعل حكيم، ولم تحصل مصادفة، أو اتفاقًا، بل صدرت عن قصد وتصميم. فالمبدأ الإنساني يتحدث عن موافقة الوجود للملاحظ الذكي، وهذه الموافقة إذا لم تكن موجودة، فإن من المستحيل للكون أن يوجد.

إذن بحسب ابن رشد هذه الموافقة بين الوجود والملاحظ الذكي هي ضرورة، وهذا ما يستوجب في التحليل المنطقي وجود مصمم قادر وحكيم أوجد الكون وأوجد الإنسان القادر على ملاحظته واستكشافه.

القران الكريم والمبدأ الإنساني
يتحدث القران الكريم في كثير من آياته عن هذا التوافق بين الكون والإنسان، وأن هذا الكون موجود ليتعرف الإنسان بواسطته على الخالق المقتدر والعليم.
يقول الله عز وجل "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما"

التفسير الماورائي
عندما نستوعب كل إمكانات التفسير الطبيعي لهذه الظاهرة فإننا لن نصل إلى التفسير النهائي. فمهما حاولنا أن نفهم الظاهرة فهمًا طبيعيًّا سيظل السؤال قائمًا من أين جاء هذا القانون الطبيعي؟ وهل الطبيعة بذاتها قادرة على خلق ظواهرها؟ وهل الطبيعة هي من يمنح للأشياء خصائصها الذاتية؟ وهل تملك الطبيعة هدفًا أو غاية من خلق الحياة وخلق الإنسان؟ إن البنية التكوينية للتفسير الطبيعي لا يستطيع أن يتجاوز بنا هذه الحلقة من التساؤلات. وقد رأينا أن التفسير الذي يعتمد الصدفة في تفسير الظاهرة، يطيح بالأساس الذي يقوم عليه العقل العلمي. فالعقل العلمي إنما يتحرك وينمو ويتطور لأنه يؤمن بأن الظاهرة الطبيعية لديها أسبابها الطبيعية التي ولدتها. وبالتالي نحن نقف بإزاء تفسيرين إثنين، أحدهما فرضية الصدفة التي أخرجناها من دائرة التفسير العلمي وهي كما رأينا فرضية تصيب العقل العلمي بالشلل والجمود. والآخر فرضيات التفسير الطبيعي التي تزيح المشكلة من مكان وتضعها في مكان آخر فنحتاج دائمًا إلى نقل التساؤلات ذاتها إلى المكان الآخر. إن فرضيات التفسير الطبيعي لا تمكنا من التحرك صعودًا في تفسير الظاهرة حتى نبلغ بها التفسير النهائي. ولا يبقى أمامنا إلا فرضيات التفسير الماورائي. وعندما نبحث في فرضيات التفسير الماورائي، فلن نستطيع الوصول إلى التفسير النهائي إلا إذا افترضنا في هذا التفسير ذاتًا كلية قادرة على خلق الظاهرة وعالمة ومحيطة بكل جزيئاتها. يعني أن فرضيات التفسير الماورائي تنحصر في هذه الذات الكلية العليمة والمقتدرة بدون حد أو نهاية، لأننا إذا افترضنا في هذه الذات تناهي القدرة وتناهي العلم فإننا لن نصل في التفسير إلى منتهاه، وسيظل الجواب يحوي هامشًا تنبعث منه التساؤلات من جديد. إذن بدون أن نضع في هذه الذات الكلية شرط اللامتناهي في القدرة والعلم فلن نستطيع نعطي إجابات نهائية لهذه الظاهرة. وما دامت هذه الذات الكلية قادرة وعليمة بدون حد أو منتهى فلن تشكل مثل هذه الظاهرة تحديا لها كما في فرضية الصدفة. كما إن هذه الفرضية تمتلك المبررات الموضوعية في خلق الظاهرة وإيجاد الحياة. لكننا لن نخوض غمار البحث في العلة الغائية للخلق ونكتفي بأن تستوفي هذا الفرضية إشكالات العلة الفاعلة التي تفسر هذه الظاهرة المحيرة للعقول. وهذا يقودنا إلى التوقف عند فرضية الإله والتعرف على المعيار الذي يعطي لهذا التفسير قبولًا في الوسط العلمي.

فرضية الإله:
فرضية الإله واحدة من الفرضيات التي تفسر ظاهرة الضبط الدقيق. نحتاج في فرضية الإله كما أسلفنا أن يكون هذا الإله قادرًا وعليمًا فقط. ولكن قدرته وعلمه لا تقف عند درجة بل يلزم أن تمتد قدرته وعلمه إلى اللانهائية وإلا لاستلزم ذلك إعادة طرح نفس التساؤلات. وإذا كان العليم والمقتدر لا يحده حد فإن من المؤكد أن احتمال الضبط الدقيق بناء على صحة فرضية الإله المقتدر والعليم أكبر من احتمال الضبط الدقيق بدون فرضية الإله. وهذا كما سنبين عندما نتعرض لنظرية التأكيد يحقق الشرط الضروري الخاص بالمعيار العلمي الذي تترجح به الفرضيات العلمية. فما عساه أن يكون هذا المعيار؟

مبدأ أوكام
إن مبدأ اوكام مبدأ نسترشد به في ترجيح أحد الفرضيات على الأخرى. وينص هذا المبدأ إن الفرضية المعتمدة علميًّا هي تلك التي تشتمل على التفسير الأبسط. لكن ماذا يقصد أوكام من الأبسط في هذا المبدأ؟
1-إن أبسط الحلول وأقلها تعقيدًا هو الحل الأمثل والأرجح
2-إن الأبسط هو الذي يحوي عدد قليل من الافتراضات. فلا يصح مضاعفة الافتراضات من غير ضرورة.
3- لا يصح أن نكثر من الوجودات المسببة للظاهرة من غير مسوغ أو ضرورة.

في الحقيقة إن هذا المبدأ ليس واضحًا بما يكفي في تحديد الفرضية الصحيحة من غيرها، ولكن الأبسط لابد أن يكون له احتمالية مرجحة في حدوث الظاهرة. فكيف نقيم مختلف الفرضيات ونرجح بعضها على بعض؟ طور ريتشارد سوينبيرون فيلسوف الأديان البريطاني لهذا الغرض نظرية يطلق عليها نظرية التأكيد؟ فما هي نظرية التأكيد؟ وكيف نطبقها على الفرضيات المطروحة في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق.

نظرية التأكيد Confirmation Theory
إن نظرية التأكيد تضع لنا صيغة رياضية لتقييم الفرضيات وتحديد ما إذا كانت هذه الفرضيات مقبولة علميًّا أو مرفوضة علميًّا.
هذه النظرية تستند غلى نظرية رياضية تسمى نظرية بايز في الاحتمالات. إذا افترضنا أن لدينا نظرية ولدينا دليل أو ظاهرة: فإننا بإزاء احتمالين، الأول احتمال النظرية بناء على وجود الظاهرة والآخر  احتمال الظاهرة بناء على صحة النظرية. في نظرية التأكيد الدليل أو الظاهرة يؤكد صحة النظرية إذا وإذا فقط حقق هذا الشرط: أن احتمال النظرية بناء على وجود الظاهرة هو أكبر من الاحتمال القبلي للنظرية. ولكي يتحقق هذا الشرط يلزم منه أيضًا أن يكون احتمال الظاهرة على فرض صحة النظرية هو أكبر من احتمالها بدون الفرضية .
لنطبق الآن هذا الشرط على الفرضيات المختلفة التي عرضناها.
ففي حالة فرضية الصدفة رأينا أن ظاهرة الضبط الدقيق لا تعزز من هذه الفرضية، بل إنها تشكل تحديًا للفرضية الأمر الذي يجعل احتمال الظاهرة على فرض صحة فرضية الصدفة هو أقل من احتمالها القبلي. وهذا يقود إلى أن احتمال الصدفة القبلي هو أكبر من احتمالها بناء على وجود الظاهرة.
وفي فرضية القانون الفائق رأينا أنه تم ترحيل هذه الظاهرة إلى القانون الفائق نفسه، فقد تعرفنا على فضاء كلابي ياو والذي يتم ضبطه عبر دمج ولف هذا الفضاء المغلق بطريقة معينة لنحصل على حل لمعادلات الاوتار وكل حل يمثل كونًا معينًا. وبالتالي فإن احتمال القانون الفائق القبلي لا يتعزز بوجود الظاهرة ويبقى الاحتمال كما هو.
أما في فرضية الإله فقد رأينا أن من المؤكد أن يتعزز احتمال هذه الظاهرة القبلي مع فرضية وجدود الإله المقتدر والعليم. حيث أن هذه الظاهرة التي يعتمد الكون والحياة على الدقة المتناهية لا يمكن أن تخضع للمصادفات الرقمية. إنه من غير المنطقي جدًّا أن تكون الصدفة العمياء أن تنتج ظاهرة بهذه الدرجة من الحدية أو نعزي مثل هذه الظاهرة إلى القانون الطبيعي الذي يجب أن ندرك عجزه البنيوي الذاتي عن إيجاد نفسه بنفسه فنحن دائمًا بحاجة أن نسال من أين أتى هذا القانون ومن أوجده. ولا يبقى إلا أن هناك وجودًا مقتدرًا وعليمًا أوجد الظاهرة من أجل قيام الحياة الذكية المسؤولة في هذا الكون ، وأنه أراد أن يوصل رسالته الخاصة لهذه الحياة الذكية. وما دامت الظاهرة تتعزز على فرض صحة وجود الإله ، فإن احتمال فرضية الإله القبلي يزيد مع احتمال الفرضية بناء على وجود الظاهرة وبالتالي تكون فرضية الإله هي الفرضية الأكثر علمية وهي الأجدر في تفسير الظاهرة.

الكون ويد القدرة
على ضوء المعلومات المتوفرة فإن الكون في وضع حرج للغاية. إن ظاهرة الضبط الدقيق تعني أن الكون لا يتمتع بالاستقرار والتوازن الذي يكفل بقاءه واستمراره. بل هو يشبه إلى حد كبير قلم الرصاص الذي يقف منتصبًا على رأسه. ومن المحتم أن تكون نهايته السقوط. ولكي يبقى هذا القلم منتصبًا على رأسه الحاد ويستمر في هذه الحالة الحرجة جدا فإنه لا سبيل له في البقاء والاستمرار إلا أن يمسك به أحد ويبقيه في هذه الحالة. وكذلك فإن هذه الظاهرة تشير إلى الوضع الحرج للكون وأن الكون بنفسه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الانهيار بل يحتاج في كل آناته لمقتدر عليم يمسك به ويمنعه من السقوط والضياع. وإن لفظة يمسك لهو تعبير الدقيق عن حاجة الكون الماسة في بقاءه واستمراره. وقد وردة هذه اللفظة في القرآن الكريم في السياق الذي يبين فيه أن العناية الربانية هي من تحفظ هذا الكون وتمسك به من الانهيار. يقول الله عز وجل في سورة فاطر الآية 41، (إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن امسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا(
ويقول الله عز وجل في سورة الحج الآية 65
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة