علمٌ وفكر

الوقت وصلته بالمقدس

محمد بن رضا اللواتي

قليلة هي، الدراسات التي بحثت في الصلة التي تربط الوقت بظاهرة التقديس، وكيف يمكن أن تتناول تلك هذه. فنحن نعلم أن الأديان بصفة عامة، سواء منها السماوية أو غيرها، تزخر بظاهرة “الوقت المقدس” والذي يُستجاب فيه الدعاء بنحو لا يكون له نظير في غير ذلك الوقت المحدد من الزمن، والإتيان بالصلوات والترانيم اللاهوتية والأناشيد الروحية والصوم تكون فيه أفضل من غيره من الأوقات.

فمثلًا يُستحب الصوم في أوقات معينة وفق الدين الإسلامي، كألأيام البيض من كل شهر، والخميس من كل أسبوع، وفي شهر رجب وشعبان، بينما يصل الأمر إلى الوجوب تحديدًا في شهر رمضان، ويُحرم وفق بعض الآراء الفقهية يوم عيد الفطر والأضحى.

والسؤال هنا هو: كيف أضحى زمن دون آخر محطة عبور الأعمال إلى الكائن المتعالي بشكل لا نظير له مقارنة بغيرها من الأزمنة والحال أن هوية الزمان كله واحدة؟

فبالنظر إلى أن الأوقات كلها واحدة من زاوية هويتها التكوينية والوجودية، إذ لا يتصور عقل وجود اختلاف بين الجمعة وبين الأحد، وبين ليلة القدر وبين ليلة عيد الفطر، من زاوية كونهما وقتين يقعان بسبب الحركة – بغض النظر عن نوع الحركة المنتجة للزمان، أهي حركة الشمس والقمر والفلك أم هي حركة جوهرية اشتداديه تقع في صميم العالم كما برهن عليها صدر الدين الشيرازي في حكمته المتعالية – يبقى السؤال هو نفسه.

يلزمنا، وقبل عرض الإجابات للتساؤل المار ومناقشتها، أن نحدد المعني به من “الوقت” ومن “المقدس” حتى لا تشتبك المعاني بأخرى غير منظور لها هاهنا.

“الوقت” المقصود به في هذه المقالة “الزمن” والذي يمكن تعريفه أيضًا بكونه “مقدار” الحركة. لا يستطيع العقل تصور زمان في غياب الحركة. فالزمن توأم الحركة وكاشف عن مقدارها.

أما “المقدس”، فالمقصود به “حالة من الطهارة المتعلقة “باللاهوت”، لأن الطهارات أنواع، إلا أن الوحيدة التي يمكنها أن تأخذ صفة القدسية، هي التي ترتبط بالألوهية، باعتباره الرابط الوحيد الذي يستطيع توفير طهارة فوق الاعتياد، لا يمكن تصور شائبة فيه من أي جهة ما فرضت.

بعد التحديد الفائت يمكننا عرض ومناقشة الإجابات المحتملة عن السؤال السابق الذكر.

الإجابة الأولى كلاسيكية للغاية، لا ترى أدنى صلة تكوينية حقيقية بينهما، بل ترى أن الذي ربط بينهما هي مسائل اعتبارية تأسست لأجل تحقيق مصالح معينة قد تكون مجهولة القدر والجدوى. فلا توجد رابطة حقيقية بين شهر رمضان وبين كونه وقتًا مقدسًا ينبغي احترامه، ولكن لأن الأديان تريد تحقيق مجموعة من المصالح التربوية العائدة بالنفع إلى المتعبد بها، ربطت بعض الأوقات بالتقديس لأجل أن تتحقق تلك الأهداف التربوية المرجوة، وإلا فإنه وفي ظرف الحقيقة والواقع، لا توجد صلة عضوية أو تكوينية بين ذلك الوقت والتقديس الذي أُحيط به.

ناقدوا هذه الرؤية الكلاسيكية لا يجدون أن عدم اكتشاف الرابطة مؤشر على عدم وجودها، لذا ففي نظرهم أن إلغاء وجود صلة حقيقية وفي ظرف الواقع بين الوقت وبين المقدس لمجرد عدم اكتشافها لا يمكن أن يُعد دليلًا على عدم وجودها.

اضافة إلى ما مر، فإن ما نشهده من الأسلوب الذي يمضي فيه نظام العالم تجاه مقاصده لا يتفق مع هذه الرؤية. فنظام العلية، ورابطة وجود صلة حقيقية بين الأسباب والمسببات، تكشف أن مدار نظام العالم مستند على صلات حقيقية بين الأشياء، فلا تقع الأمراض إلا لوجود الأوبئة، ولا تهطل الأمطار إلا لوجود السحب، ولا تصدر الحرارة إلا عن مسبباتها. إن هذا النسق من النظام يعد بوجود صلة حقيقية أنتجت قدسًا في زمن معين دون آخر، وما على أهل العلم إلا التتبع والملاحظة والتحليل حتى بلوغ السر وفك الشفرة.

الإجابة الثانية حاول أصحابها إضفاء الحالة القدسية على بعض المكنون الزماني دون البعض الآخر من منطلق ذاتي وبنحو يتعذر للعقل اكتشاف هويته تحقيقًا. يقولون إن بعض قطعات الزمان تحوي ذاتيًّا حالة قدسية نجهل كيف اتصفت بها تحديدًا.

فلو تأملنا في مخيلتنا الزمان على نحو نقاط، يرى هؤلاء بأن علينا أن نلاحظ وجود بعض من تلك النقاط مضيئة كعلامة للتقديس، وهذه الإضاءة ذاتية في تلك النقاط يستعصى على العقل إدراك سبب ذلك.

إذن نحن أمام نظرية تقول بوجود بعد قدسي ذاتي في بعض نقاط الزمان دون البعض الآخر، والقاعدة الأساس التي تستند عليها هذه النظرية هي عدم وجود تفسير عقلي واضح ومقبول يستطيع تحليل وتفسير ظاهرة سريان الحالة القدسية في بعض الأزمنة دون الأخرى والحال أن كل الأزمنة من الناحية التكوينية واحدة.

الواقع، من الصعوبة بمكان الإقرار بوجود ضوء قدسي ذاتي في بعض نقاط الزمان دون غيرها والحال أن كل نقاط الزمان من ناحية التكوين واحدة. الزمن مقدار الحركة ولا اختصاص له إلا بالحركة فحسب. وفي ضوء غياب مبرر عقلي مستند على منطق مقبول، يتعذر قبول هذه الإجابة حقيقة. يمكننا التغيير في صياغتها لتكون كالتالي:

ما المانع العقلي من أن تكون بعض نقاط الزمان مقدسة بالذات دون غيرها؟

وبالطبع، فإن عدم العثور على المانع العقلي لن يبرر وجود الحالة القدسية الذاتية في الأزمنة، لأننا حينها نحتاج إلى دليل عقلي متين يؤكد وجود هكذا حالات، وفي غياب ذلك النمط من الدليل، تبقى الإجابة عائمة في مياه الاحتمالات غير المبرهنة.

الإجابة الثالثة والأخيرة تعلق ظاهرة سريان التقديس في الأزمنة بوقوع أحداث وحركات تنتج في تلك الأزمنة التي وقعت فيها تلك الأحداث والحركات أثرًا مقدسًا، ولا سبيل له إلى العودة فضلًا عن الديمومة إلا إذا ظلت الحركة المنتجة للحالة القدسية باقية بنحو ديمومي.

نرجو من القارئ الكريم أن يتخيل 14 نقطة باعتبار أن كل واحدة ترمز إلى قطعة من قطعات الزمان، ولنطلق على القطعة 1 بالجمعة، ولأن الزمان متصل بالحركة اتصالًا تامًّا، بناء عليه، تقول هذه النظرية بأنه ولكي تتصف القطعة 1 (الجمعة) بالمقدس، ينبغي أن تقع حركة، وبعبارة أخرى، ينبغي أن تصدر حركة من إنسان تؤدي إلى ارتباطه باللاهوت بالنحو الذي تصبح حركته تلك واسطة سريان الحالة القدسية في القطعة 1(الجمعة). ولكن، ولأن كل قطعة من قطعات الزمان تنصرم بعد وقوعها، ولا ثمة سبيل إلى عودتها في نهر الزمان إطلاقًا، فإن تبرير تكرارها لن يكون بسبب تسمية، لأن التسمية اعتبارية، فالسبيل الوحيد لسريان التقديس مجددًا في أية قطعة أخرى فرضناها هو عودة وقوع الحركة المنتجة للتقديس عبر الارتباط مجددًا باللاهوت.

ومعنى هذا: القطعة 1 والتي أطلقنا عليها الجمعة، لن تعود بعد انصرامها إطلاقًا، وإن كررنا إطلاق الجمعة على كل قطعة تأتي بعد مرور 6 قطع من انصرام القطعة 1، لأن القطعة 7 والتي أطلقناها عليها الجمعة مجددًا لا علاقة لها بالقطعة 1، فهذه جديدة بالكامل، وسوف تلقى المصير ذاته بعد انصرامها ولا ثمة سبيل إلى عودتها  مجددًا في نهر الزمان على الإطلاق. ولكي تصبح القطعة 7 (الجمعة) ذات قدسية شبيهة بالقطعة 1 ينبغي أن تقع حركة على غرار تلك المنتجة للتقديس بالاتصال بمنبع القدس والطهارة مجددًا.

يتحتم وفق تلك الرؤية وجود إنسان يتمتع بإمكانات هائلة في ذاته يتمكن من استخدامها لإنتاج حركة إلى الملكوت الأعلى، توصله إلى مقام القرب المنتج لحالة التقديس في ذاته من خلال حركته وعمله ذاك، وتكون سببًا في نشوء التقديس في الزمن المرافق لحركته اللاهوتية.

وهكذا، فشهر رمضان الذي يتمتع بقدسية خاصة لا نظير لها في بقية الأشهر، لا بد وأن سالكًا إلى الله فيها تصدر عنه عبادة توفر له قدسية عالية بحيث تضيء الزمن كله المحيط بها. وهكذا فإن ليلة القدر التي غدت خيرًا من ألف شهر، وتصل أعمال الإنسان فيها إلى ذروة القبول، لا بد وأن الإنسان الكامل فيها قد بلغ به السعي نحو الألوهية بالنحو الذي وفر قدسية منقطعة النظير، شملت الزمن وما تقع فيه من حركات مماثلة.

قراءتنا تجد أن الرأي المار هو أشد الآراء تماسكًا وترابطًا ويستطيع المنطق السليم أن يعضدها كذلك، إلا أن سؤالًا هامًّا تستتبع الرؤية المارة وهو: “هل يوجد كائن في عالم الزمان والحركة يحمل من الإمكانات تلك التي تتيح له السير نحو الإلوهية بالنحو الذي تسبب في وجود أزمنة مقدسة في نهر الزمان بنحو مستمر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة