"واللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ وَلَوْلَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَلَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَة".[1]
نعرّف الذكاء بأنّه عبارة عن الوصول السريع إلى المبتغى. إذا كان المبتغى فكرة، فهذا ذكاء فكري، وهو الشائع. وإذا كان المبتغى نجاحًا في التجارة، فهذا ذكاء تجاري، وهكذا في كل شأن وفرع.. حين ينصب كل اهتمام المرء على شيء، ويسعى للوصول إليه في الليل والنهار، فمن المتوقع أن ينشأ من هذا السعي الحثيث المتواصل ذكاءٌ يتعلق بهذا الشيء. وطالما أن الأكثرية الساحقة من البشر همّهم ومبتغاهم هو الدنيا دون الآخرة، فهم أذكياء في أمور الدنيا مع حماقة فادحة على مستوى شأن الآخرة. فعن رسول الله(ص): "يَا أَبَا ذَرٍّ لَا تُصِيبُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ حَمْقَاءَ فِي دِينِهِمْ عُقَلَاءَ فِي دُنْيَاهم".[2]
يزداد المرء ذكاءً كلما أوغل في طلب الشيء وصرف إليه نفسه وفكره واهتمامه. هذا ما يُفسّر التفوُّق والنبوغ في الرياضيات عند العديد من الذين يعانون من مشكلة التوحُّد (بحسب المصطلح الشائع) والتي تجعلهم غير قادرين على التفاعل مع المحيط أو إقامة علاقات اجتماعية طبيعية.
الطيبون والأخيار في هذا العالم يصعب عليهم أن يتصوروا الشخصية الشريرة التي يكون هدف صاحبها أذية الآخرين والإضرار بهم وظلمهم والتسبب لهم بأنواع الشرور والمصائب. الطيب لا يخطر على باله أي شر تجاه غيره حتى لو ارتكبه بسوء فعله. هناك تناقض تام بين الإنسان الطيب والخبيث، ولذلك لا يمكن أن يجتمعا في شخصٍ واحد حتى على مستوى التوجه. ولهذا قد يُقال بأنّ الخبيث لا يمكنه أن يتصور وجود طيب في هذا العالم أيضًا.
لكن المشكلة هي أنّ الطيبين يصبحون عرضة لهجمات الخبثاء الذين يجدونهم لقمة سائغة أو يسوغون لأنفسهم الاعتداء عليهم وسلب حقوقهم. ولأنّ الطيب لا يعقل الشر في نفسه، فإنّه لا يتصوره في غيره، رغم أنّه قد يُبتلى بظلمه وأذاه الفادح. قيل بأنّ آدم عليه السلام قد وقع ضحية غواية إبليس لأنّه ما كان ليتصور أنّ هناك كائنًا يمكن أن يُضمر الشر وفي صدره مثل هذا الحسد. هذه السذاجة الأولية التي يُعبَّر عنها بالبله كانت سببًا لوقوع آدم في فخ عدوه الشرير؛ وبقية القصة معروفة.
وفي الحديث عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ (ع) أَنَّ النَّبِيَّ (ص) قَالَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَوَجَدْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ يَعْنِي بِالْبُلْهِ الْمُتَغَافِلَ عَنِ الشَّرِّ الْعَاقِلَ فِي الْخَيْرِ وَالَّذِينَ يَصُومُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْر".[3] هذه البلاهة ـ إن أردنا هنا استعمال مُصطلح الروايات نفسها ـ مثلما أنّها أجمل ما في الحياة الاجتماعية والعلاقات، فإنّها غير مفيدة إطلاقًا حين تحصل المواجهة مع الأشرار. حين قدم المستعمرون إلى بلادنا وعلى رأسهم الإنكليز المعروفين بخبثهم ومكرهم على مستوى شعوب العالم، وجدوا أقوامًا سُذَّجًا لم يكونوا ليتصوروا مثل هذا الشر من قبل.
يحكي الإيرانيون قصة ذلك البريطاني الذي أُعجب بزوجة أحد عمال النفط في شركة النفط الأنغلوـ إيرانية. فوضع خطة شيطانية للحصول عليها. وقرّر أن يصادق هذا العامل الساذج، وبعد مدة من المصاحبة والتقارب، تظاهر البريطاني بالحزن والكآبة؛ وفهم الإيراني أنّ صديقه متألم وحزين لبعده عن وطنه وعياله ولكونه يعيش وحيدًا. فاقترح عليه أن يجلب له من يؤنسه. وهكذا أرسل له امرأة لتصاحبه؛ وما كان من هذا البريطاني إلا أن أدخل هذه المرأة إلى مهجعه، لكنّه لم ينظر إليها، ولم يلمسها أو يتودد إليها إطلاقًا، بل أعطاها أُجرتها عند انصرافها في اليوم التالي بسخاء. وعند لقائه صباحًا رأى الإيراني أنّ البريطاني قد تحسن وضعه النفسي وعاد إلى نشاطه المعهود، ففرح له وأغبطه. لكن البريطاني هذا عاد بعد مدة إلى وضعه السابق، وما كان من صديقه الحنون إلا أن أرسل له امرأة أخرى لتؤنسه. وحدث ما حدث في المرة السابقة تمامًا. ثمّ تكرر هذا الأمر على مدى الأسابيع اللاحقة. وكل مرة يدفع البريطاني لكل امرأة تأتيه بسخاء وكرم. ففكر الإيراني بينه وبين نفسه قائلًا: طالما أنّ صديقي البريطاني العزيز لا يفعل شيئًا مع النسوة اللاتي أرسلهنّ له، فلماذا لا أستفيد أنا بنفسي من ذلك دون أن أخسر شيئًا. فأقنع زوجته بأن تذهب إلى البريطاني وأكّد لها أنّ الأمر لن يكون سوى كسبًا لمبلغٍ كبير. وما كان من امرأته إلا أن قبلت بهذا الطلب وذهبت لملاقاة البريطاني في مهجعه. والبقية يمكنكم أن تتصوروها.[4]
تاريخ الاستعمار الذي بدأ قبل أكثر من مئة سنة يذكر الكثير من القصص والوقائع التي تدل على أنّ أحد أهم عوامل سقوط الشعوب والبلدان في قبضة المستعمرين يرجع إلى السذاجة العالية التي ميزتهم، وليس إلى وجود الأسلحة الفتاكة أو الجيوش المدججة؛ حيث إنّ معظم هذه الشعوب ما كانت لتتخيل هذا المستوى من الشر والخبث. يمكنكم أن تطالعوا وقائع إحدى أكبر الخدع التي انطلت على الشعوب العربية وأدت إلى سلب فلسطين ونكبة شعبها المتواصلة، وكل الويلات التي جرت على منطقتنا العربية وغيرها.
لا نقول بأنّ شعوبنا أو زعماءنا كانوا طيبين وخالين من الشر، لكن لم يكن ليخطر ببالهم هذا المستوى من الشر والخبث. لقد كانت أوروبا تطور ذكاءها الشرّي الذي يُطلَق عليه عنوان الدهاء على مدى العصور، في الوقت الذي كانت شعوبنا تطور سذاجتها وحماقتها الاجتماعية تجنُّبًا لأي نوع من أوجاع الرأس والمشاكل. على مدى العقود كان الطاغي على أهلنا هو المثل المشهور: "ابعد عن الشر وغنّ له"، في الوقت الذي كان كتاب الأمير لمكيافيلي يُدرَّس على نطاقٍ واسع في بلاطات أوروبا ومؤسساتها.
لا يدور الأمر بين أن يكون الإنسان أبله لا يعقل الشر وبين أن يكون شرّيرًا. يمكن للإنسان المؤمن، بل يجب عليه، أن يطور علمه بالشر وتعقُّله له، وأن يتعمق في دراسته دون أن يُبتلى به. بالطبع هذا أمرٌ صعب للغاية، ويحتاج إلى تدريب ورياضة خاصة وتحت إشراف مربٍّ خبير. لأنّ هناك علاقة مباشرة بين التفكير بالشر والابتلاء به. إذا انشغل فكر الإنسان بالشر أكثر من المطلوب، من الـمُرجَّح أن يسقط في فخه. وفي الحديث: "مُجَالَسَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ".[5]
المؤمن الكامل كيّس فطن لا يُخدع ولا تنطلي عليه أحابيل الأشرار. وكيف يكون كذلك وهو يواجه رئيس الأشرار ليل نهار، ويستعيذ من شره عند كل موقف. فهو يطور ذكاءه الشري والقدرة على الدهاء والمكر في نفسه في الوقت الذي يستعيذ منه ويسعى لصيانة نفسه ومن حوله من شره.
والمؤمن يدرك حيل الشر كلها في العالم لأنّه طالع التاريخ واستفاد من مواقفه دروسًا وعبرًا، بعد أن تدبر في القرآن وفي أحوال الكفار والجاحدين والظلمة. لذلك فإنّه لا يرى العالم بعين واحدة، وإن كان لا يُطلب منه سوى الخير.
يدرك هذا المؤمن أنّ هناك أناسًا في هذا العالم يتعلم الخبيث اللعين منهم دروسًا في الشيطنة، ويعلم هذا المؤمن أنّ لبعض الناس نفوسًا عُجنت بالشر وتحولت إلى ما يشبه الشر المطلق. هؤلاء الذين يُقال عنهم أنّهم يُخلدون في النار، لأنّهم لو بقوا في الدنيا أبدًا لعصوا الله أبدًا. هؤلاء الذين لا يمكن لنا أن نتصور وجود أمثالهم حين لا نراهم في حياتنا ومن حولنا لحسن الحظ.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرينَ}.[6]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. نهج البلاغة، ص 318.
[2]. بحار الأنوار، ج74، ص 83.
[3]. وسائل الشيعة، ج10، ص 426.
[4]. لا نقصد الإساءة إلى الشعب البريطاني كله، لكن الملفت أنهم يعجبون بهذه الميزة ويعتبرونها من مفاخرهم.
[5]. صفات الشيعة، ص 6.
[6]. سورة آل عمران، الآية 54.
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
عدنان الحاجي
السيد محمد باقر الصدر
السيد عباس نور الدين
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التفكير الإيجابي والتطور الاجتماعي
القرآن في تشريعاته الرّاقية
الإسلام والديمقراطية
الخوارج، النّشأة والعقيدة
النّمر ضيف عرش البيان، وحديث حول أبي البحر الخطّي
معنى الإلوهيّة والرّبوبيّة
لماذا يلعب الأطفال اللعبة نفسها، أو يشاهدون المسلسل التلفزيوني نفسه مرارًا وتكرارًا؟
الإدراك في البحوث النّفسيّة
التّشيّع دائمًا عبر التاريخ
بين العقلانيّة وخوارق العادات، كيف نحبّ أن يعاملنا اللّه؟