علمٌ وفكر

أخلاقيّات النقد عند السيد الصدر (4)

 

سأكتفي في الحديث عن أخلاقيّات النقد عند السيد الصدر بأمرين، من باب التذكير، وهما واضحان: «الموضوعيّة»؛ و«الأدبيّة».

من النادر أن تجد شخصاً حينما يناقش فكرةً يتماهى مع خصمه، حتّى تظنّ أنّ هذا الشخص مقتنعٌ بها، بل يختلق لها الأدلّة والوجوه والاعتبارات، ثمّ يقوم بعد ذلك بالنَّقْد. وهذه هي قمّة الإنصاف والموضوعيّة. فعلى الباحث أن يتماهى مع الأفكار، حتّى لو كانت من أكثرها بُعْداً عن فكره، وعليه تقمُّص شخصيّة الخَصْم، ثمّ التفكير لمصلحته، ثمّ تقديم أقصى ما يمكن تقديمه، وبعد ذلك يعود لممارسة عمليّةٍ نقديّة.

وهذا الأمر ليس بسيطاً، وإنَّما يحتاج إلى تربيّة روحيّة وأخلاقيّة، وإيمانيّة أيضاً، في كيفيّة ممارسة هذا النوع من النقد. ولا نحتاج إلى شواهد حينما نطلق هذه الادّعاءات؛ لأنّ الجميع قد لاحظ منجَزَ هذا الرجل الكبير، وإنَّما نريد أن نستجمعها؛ لنستلهم منها.

أمّا أدبيَّته وهدوء لغته، فهو ليس رجلاً متوتِّراً فاقداً لأعصابه، وليس رجلاً متعثِّراً في مشيته، فيشعرك كأنَّه يملك الساحة؛ نظراً لثقته بنفسه التي يملكها. والنقد الأدبي هو نقدٌ منطلق من ثقةٍ بالذات، أمّا النقد الهائج المنفعل فقد يأتي أحياناً من الخوف وعدم الوثوق من صحّة النقد. فعلى الباحث التنبُّه إلى الثقة بنفسه، وعدم تعنيف الآخرين جرّاء فقدانها. كما وعليه أن يقدِّم رؤيته وانتقاداته بطريقةٍ هادئة، شاعراً أنّ الميدان ميدانه. وفي حالة عدم ثقته بنفسه وبفكره بطريقةٍ علميّة لا ينبغي له الدخول إلى الميدان، فيوتِّر الساحة.

نحن محتاجون اليوم أن نستلهم من هذا الرجل الكبير أخلاقيّة النقد في بُعْدَيْها: الموضوعيّ المميَّز جداً؛ والأدبيّ المميَّز كذلك. وهناك فرقٌ بين الخطابات التَّعْبَويّة والخطابات الفكريّة. ونقلُ الخطاب التَّعْبَويّ إلى الفكر كارثةٌ في كثيرٍ من الأحيان، كما أنّ نقل الخطاب الفكري أحياناً إلى الخطاب التَّعْبَويّ فيه كوارث. فنحن نحتاج حقّاً إلى هذا الفصل بطريقةٍ وبأخرى.

 

مخاطر النَّقْد وهواجسه

هناك مشكلتان في التفكير النقديّ:

المشكلة الأولى: أن يعيش التفكير النقديّ رغبةً في النقد لشهوة النقد؛ فهناك أناسٌ يمتلكون شهوة النقد كما هي شهوة الطعام والشراب والجاه والسلطة والشهرة، فتتملَّكه هذه الشهوة، لتصبح عقدةً ووسواساً في داخله. ورغم أنّ التفكير النقدي هو وعيٌ وبصيرة؛ لأنه قائم على رفض التقليد، إلاّ أنّ شهوة النقد ليست وَعْياً، وإنّما هي عجزٌ عن تقبُّل الحقيقة في بعض الأحيان، وغشاءٌ حاجب بين الإنسان وبين الحقيقة. فنحن لا نريد مفكِّراً مسلِّماً دائماً، ولا مفكِّراً متمرِّداً دائماً، وإنَّما نريد مفكِّراً مستعدّاً لقبول الحقيقة، ومستعدّاً في الوقت عينه للتمرُّد على ما يراه باطلاً، أمّا أن يعيش عقدة النقد بشكلٍ دائم فهي مشكلةٌ كبيرة في هذا الإطار.

المشكلة الثانيّة: الإحجام عن النقد لعُقْدة النقد أيضاً؛ فكثيرون منّا لا يريدون النقد ويهابونه ويرفضونه وينأَوْن بأنفسهم وبالآخرين عنه؛ لأنّ النقد مُخيفٌ بالنسبة إليهم، ولا سيَّما إذا طال الذوات الشخصيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والدينيّة، فيصبح الإنسان رافضاً للنقد؛ لأنّه عقدةٌ ومخيف ويوجب التوتُّر، ولأنّنا لم نتربَّ على ثقافة النقد، علماً أنّ الموضوع ليس فكريّاً هنا، وإنَّما هو تربويٌّ بامتيازٍ.

نحن نحتاج إلى أن يكرَّس هذا الأمر في مدارسنا الدينيّة والعصريّة منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الحوزويّ والجامعيّ قاعات التعليم؛ لكي يتربَّى على ثقافة أن لا تتملَّكه شهوة النقد، ولا شهوة التقليد، وهي ثقافة تجعله متحرِّراً من عقدة نقد الذات، ومن أن يكون محبطاً أو فاقداً للثقة بالنفس.

 

النوع الرابع: التفكير البدائليّ، أو عقليّة البحث عن حلٍّ

بعد هذا الاستعراض الموجز لأقسام التفكير ومجالاته، وطرح بعض التفصيل حول التفكير النقديّ، وما له من مصائر ونتائج ومجالات وحدود وأخلاقيّات ومخاطر، علينا التذكير بالتفكير البدائليّ الذي وجدناه عند الشهيد الصدر. فالنقد في بعض الأحيان كافٍ لوحده، كما إذا سار الإنسان فوجد حَجَراً في وسط الطريق، فالمطلوب منه في هذه الحالة إزالة هذا الحَجَر لفتح الطريق، وليس المطلوب منه الإتيان بحَجَرٍ بديل! لكنّ التفكير النقدي لوحده يصبح هدّاماً في بعض الأحيان إذا لم يُرْفَق بالبدائل. فنحن بحاجةٍ اليوم في ساحتنا الإسلاميّة إلى نوعين من التفكير النقديّ:

1ـ تفكيرٌ نقديّ يزيل الأحجار من الطرقات، أو يخفِّف الحمولات التي تئنّ منها السفينة المشرفة على الغَرَق وسط البحار، وهي الأحجار والحمولات التي تؤثِّر على نموّ وتطوّر الأمة الإسلاميّة، سواء أكانت أحجاراً فكريّة أم اعتقاديّة أم فقهيّة أم نفسيّة أم اجتماعيّة أم عرفيّة… فهنا يكفي إزالتها ووضعها جانباً، لتأخذ الحياة مجراها الطبيعي التكاملي.

2ـ تفكيرٌ نقديّ يرفع المشكلة ويضع البديل معاً، ولا يعيش رغبة النقد فقط لأجل النقد. فالنقد ليس للنقد، وإنَّما للتغيير والإصلاح وتحسين الأمور والتصويب، وقد يحتاج النقد إلى الخطوة اللاحقة، وهي وضع البدائل. وهذا ما فعله السيد الصدر حينما كان ينتقد المدارس الأخرى؛ حيث كان يضع بديلاً. ففي الفصل الأوّل والثاني من (اقتصادنا) حينما انتقد المدارس الأخرى تجده قد وضع في الفصل الأخير البديل، وفي (الأسس المنطقيّة للاستقراء) حينما انتقد المدارس التجريبيّة والعقليّة والوضعيّة وضع بديله المتمثِّل بالمذهب الذاتي للمعرفة. وهذا البديل جدُّ ضروريٌّ في بعض الأحيان.

 

البدائليّة من رحم الرساليّة

إنّ مشكلة البعض من نقّادنا اليوم أنّهم لا يحملون هَمَّ وضع البديل، وكأنَّهم غير معنيّين بهذا الموضوع. وهنا تأتي خاصية الرساليّة في هذا الرجل. فالرساليّ لا يتلذَّذ بسقوط المبنى، وإنَّما يصبح سعيداً ببنائه مرّةً ثانية بنحوٍ أفضل. وكثيرون كانت عندهم إرادة النقد كيف ما كان، لكنَّهم افتقدوا هِمَّة صناعة البديل، سواء كان بديلاً موضعيّاً أم جذريّاً؛ لأنّ وضع البديل أصعب من النقد أحياناً؛ فمن السهل أن تهدم بناءً، لكنْ من الصعب أن تقوم بتشييد بناءٍ آخر.

 

كلمةٌ أخيرة

أعتقد أنّ الاستلهام من هذا الشهيد الكبير، من تفكيره المنظَّم، وفهمه الواضح للآخرين، ومن قدرته النقديّة الممنهجة والصحيحة، ومن رؤيته البدائليّة التي لا تقف عند حدود تهديم ما عند الآخرين، ومن أخلاقيّاته…، من جميع هذه الأمور يمكن استلهام الكثير؛ لإحياء هذه المسلَّمات في حياتنا اليوميّة، وفي محافلنا العلميّة والدينيّة، إنْ شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــ

حيدر حب الله

محاضرةٌ ألقيت في المؤتمر الأوّل للسيد الشهيد الصدر، في مدينة قم الإيرانيّة، بدعوةٍ من مكتب الشهيد الصدر الثاني، بتاريخ 5 ـ 5 ـ 2013م.ثم نشرت في مجلة نصوص معاصرة، العدد: 38 ـ 41، في بيروت، لعام 2015 ـ 2016م.

مواقيت الصلاة