مقالات

دور العلماء في إحياء الحضارة الإسلامية (1)


الشيخ جوادي آملي ..
قبل الدخول في صلب الحديث، لابدّ من الإشارة إلى أنّ المراد من الروحانيين هم الفقهاء وعلماء الدين. ولئن اشتهرت تسمية هذه المجموعة بالروحانيين فلأنّ هذا النوع من المسمّيات ليس توقيفياً، ولا يوجد تشاحّ في المصطلحات، وإن سمّي علماء الدين وفقهاء الشريعة بالروحانيين فذلك لا لمشكلة دينية أو فكرية، فليس الروحانيون سوى الفقهاء وعلماء الدين.
الأمر الثاني: هو كما أنّ كتابنا المدوَّن فيه محكم ومتشابه، ويتمّ حلّ المتشابهات على ضوء المحكمات، فكذلك الكتاب التكويني لخلق البشر؛ إذ هناك في المجتمعات البشرية محكمات ومتشابهات أيضاً. وقد عقد الكليني (قدس سره) باباً في أنّ أهل البيت(عليهم السلام) قالوا: إنّنا نعدّ من بين المجتمعات البشرية من محكمات الخلق، وأمّا الآخرون فهم من متشابهات البشر الّذين ينبغي رجوعهم إلى "أمّ الكتاب" التكويني حتّى يتمّ تفسيرهم. وكذلك (الروحانيون) أيضاً بينهم محكمات، ابتداءً من الكليني حتّى نصل إلى الإمام، ومن المفيد إلى الآراكي، ومن الشيخ الطوسي إلى الگلبايگاني، وبينهم متشابهات من الذين اتّخذوا هذا (الزي) وسيلةً (للارتزاق)، ولابدّ من تفسير كتاب (الروحانية) عن طريق إرجاع المتشابهات إلى هذه المحكمات. فإذا كان دفاع عن حريم العلماء المقدّس وتبيين للمقام السامي، فالمراد هو العلماء وفقهاء الدين الكبار المتصدّين لنيابة الأئمة المعصومين (عليهم السلام). وكلّما تصاعد ضجيج الحناجر الأجنبية كان هذا الضجيج متوجِّهاً نحو هذه الشخصيات، ولا شُغل لهم أبداً بالمتشابهات إلاّ أنّهم دائماً يتخذونها ذريعة.
وبعد أن حرّرنا محلّ البحث، سنتكلّم في فصلين:
الفصل الأول: ما هو العنصر الأساس والعمل الرئيس للروحانيين؟
الفصل الثاني: كيف ينبغي تأمين نفقات الروحانيين؟
الفصل الأول: قطب الرحى في عمل الروحانيين
إنّ قطب الرحى في عمل الروحانيين أمران، وهما العنصر الأساس الذي يشكّل رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، فالأول "يزكّيهم" والثاني "يعلّمهم الكتاب والحكمة"، وقد قُدِّمت التزكية على التعليم في الكثير من الموارد، وفي بعض الموارد ذكر التعليم أكثر من التزكية؛ لأنّ التعليم (مقدّمة) للتزكية، وفي بعض الموارد ذُكر قبلها، ولكن عندما تُذكر التزكية قبل التعليم؛ فذلك لأنّها (مقدّمة) على التعليم، ولا عمل للروحانية أكثر أو أقل من ذلك. فلو أنّنا رفعنا تعليم الكتاب والحكمة والتزكية عن الروحانيين لغدو عاطلين.
إنّ عمل الروحانيين مكوّن من شيئين، ومن يقف أمام هذين الشيئين فإنّ الروحانية ستنتفض بوجهه: (أن تقوموا لله)، وكلّ من اختار القعود فإنّ الروحانية ستكون لها القيمومة عليه "يعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم"، وما تقرأونه في سيرة الأنبياء وسننهم هو هذين الأصلين، وأنّ الحروب مقدّمة لإجراء هذين الأصلين، والسلام يعتبر الأرضية لإقامة هذين الأصلين. وكما أنّ الأنبياء يهدفون إلى أكثر من هذا، فكذلك الروحانيون لا يهدفون إلى أكثر منه.
إنّ القرآن الكريم يعتبر فضاء الحياة فضاءً للعلم والثقافة، ويضمن إلى جانب هذا الفضاء جوَّ سلامة الروح، ويقول للبشر: ينبغي لكم استنشاق الهواء في فضاء العلم مهما كانت الظروف، فإن كنت مقلِّداً فكن مقلِّداً عن تحقيق، وإن كنت مقلَّداً فكن مقلَّداً عن تحقيق، وإن كنت من المصدّقين، فكن مصدّقاً عن تحقيق، وإن كنت من المكذّبين فأنكل عن تحقيق، وسوف لا يكون التصديق والنكول والإمامة والإتّباع من دون الجوِّ المنفتح للعلم والدين.
ولنستظهر هذه الأقسام الأربعة من أربع آيات من القرآن حتّى يتّضح أنّ تصديق المجتمع علمي وتكذيبه علمي وقيادة المجتمع علمية، وإتّباعه علمي أيضاً.
فقد نقل الكليني (قدس سره) هذه الرواية الوضّاءة عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الله سبحانه وتعالى حصّن عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا على الله إلاّ الحقّ، أي إذا أرادوا التصديق بشيء فلابدّ أن يتحقّقوا في تصديقهم به، وإن أرادوا تكذيب شيء فلابدّ أن يكون عن تحقيق أيضاً.
أمّا التصديق المحقّق فهو الآية الشريفة:
{ألم يُؤخَذْ عليهم ميثاقُ الكتاب ألاّ يقولوا على الله إلاّ الحقّ}.
وأمّا التكذيب المحقّق فهو قوله تعالى:
{بل كذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله}.
إنّ هاتين الآيتين تثبتان ـ وفقاً لاستنباط الإمام الصادق (عليه السلام) ـ أنّه لا يحقّ لشخص أن يصدّق بأمر من دون أن يحقّق فيه، كما أنّه لا يحقّ له أن يكذّب أمراً دون أن يحقّق فيه، وينبغي أن يكون السلب والإثبات في نطاق العلم والقطع.
أمّا الآيات التي تبيّن مسألة القيادة والإتّباع فهما الآيتان الثالثة والثامنة من سورة الحج المباركة، فقد قال تعالى في الآية الثالثة:
{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتّبع كلَّ شيطان مريد}.
وفي الآية الثامنة:
{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله}.
فإنّ البعض يتّبع كلّ شخص ويقتفي أثره من دون تحقيق، وربّما كان يتّبع شيطاناً، و(المريد) معناه المارد والمتمرّد والعاصي، فهو إذ يتحرّك من دون تحقيق إنّما يتّبع الشيطان المريد، وكما قال في الآية اللاّحقة: يسعى لاجتذاب الناس وكسبهم معه في إتِّباعه هذا بلا بيّنة باطنية أو ظاهرية، ومن دون ملاحظة كتاب التكوين أو التدوين ومن دون تعقُّل أو بصيرة وحصول أو حضور، وبذلك يقوم بإضلالهم، فهو تابع بلا تحقيق وضال، وهذا متبوع بلا تحقيق فهو مضلّ.
فهذه الأسس الأربعة على كلّ من أراد التصديق بها أو تكذيبها أو قيادتها أو إتّباعها، إنّما ينبغي له ذلك بعد التحقيق في إطار الدين.
والبعض ـ مضافاً إلى تمسّكه بهذه الخطوط الأساسية ـ قضى عمراً طويلاً كمحقّق في الدين وتحرّك على أساس آية "النفر":
{فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة منهم ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}.
فأمضوا سنين متمادية في مراكز التحقيق واكتساب الخبرة ليتخصّصوا في أركان الدين الأربعة، وهذا الشخص على حدّ قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يضاهي الملائكة:
"إنّ العبد إذا خرج لطلب العلم ناداه الله سبحانه وتعالى من فوق العرش: مرحباً بك، أتدري أي مقولة تطلب، وأيّ درجة تخرج، تضاهي ملائكتي المقرّبين"، وذلك لأنّك تذكُرُني، ومن كان ذاكراً لله {ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}. كما أنّه: {من أعرض عن ذكري فإنّ لهُ معيشةً ضنكاً}.
إنّ الذاكر لله يعيش في بحبوحة واسعة لذا يأتيه نداء الحقّ تعالى من الأعالي: "تضاهي ملائكتي المقرّبين" لا أيّ ملك، إذ أنّ درجات الملائكة ليست متساوية، وهذا الحديث كالآيات القرآنية بحاجة إلى تفسير، وقد سُئل الإمام السجّاد (عليه السلام): كيف يضاهي الإنسان ملكاً مقرّباً؟ فقال: أما سمعت قول الله سبحانه وتعالى:
{شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم}.
فأوّل شاهد على وحدانيتي هو ألهويّتي، والشاهد الثاني ملائكتي، والشاهد الثالث هم أولو العلم، فبدأ الله به وثنّى بالملائكة، وثلّث بأولي العلم، وسيّدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثانيهم علي (عليه السلام)، وثالثهم أهله، وأحقّهم بمرتبته، ثمّ أنتم معاشر الشيعة العلماء بعلمنا، نازلون مقرونون بنا وبالملائكة المقرّبين.
وقد نقل في الحوزات والمدارس أنّ المعلّم الأول هو أرسطو والمعلّم الثاني هو الفارابي، وهذا بالنسبة إلى العلوم الحصولية، وإلاّ ففي مدرسة الأنبياء فإنّ المعلم الأول هو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعلّم الثاني هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والمعلّم الثالث هم أهل بيت العصمة والطهارة (عليه السلام)، ثمّ ذكر أنّ بعد أهل البيت (عليهم السلام) يأتي دور علماء الدين المتعلّمين بعلمنا والمرتبطين بنا، ونحن نضاهي الملائكة، وأنتم تضاهوننا، فإنّ العلماء الذين أمضوا عمراً في تحصيل هذه المعارف يضاهون الملائكة، وحالياً فإنّ جميع مراجعنا (قدّس الله أسرارهم) هم كذلك، أي مقرونون بالأئمة المعصومين والملائكة المقرّبين، وليس هذا بالأمر السهل اليسير، وليس مجرّد دراسة عشرة سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة، فالبعض مقرونون بالعلماء في المرجعية والمراجع مقرونون بالأئمة والأئمة بالملائكة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة