مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

عوامل السعادة والرقي: المعرفة والتزكية


الشيخ محمد مصباح يزدي ..

نحن نعيش كأمة إسلامية في عصر يكون الحساسية الإسلامية فيه أشد وأقوى من كلّ العصور التي نعرفها فيما مضى علينا من تاريخ أمّتنا. ونحن نواجه حوادث مُرّة ما كنا نتصورها من ذي‌ قبل ولكن هذه الأمور مع مرارتها وصعوبتها يبشّر بمستقبل مشرق سعيد ـ‌ان شاء‌ الله‌ـ. فإذا نظرنا إلى الحوادث التاريخية عامّة‌ وإلى الحوادث التي مرّت على الأنبياء وأممهم وبالأخص على أمتنا الإسلامية، نجد أموراً مشتركة في تلك الأمم. أحد هذه الأمور أن تلك الحوادث العظيمة‌ بدأت كظواهر بسيطة في بدء الأمر.
أخص بالذكر بعثة سيدنا ونبينا محمد(ص)، ففي بلد جبلي بعيد عن المدنية‌ والتقدم نشأ شابٌ كان له من النفسيات ما يخصّه من الصدق والأمانة،‌ وكان يتجنب عن ما يشتغل به أمته من عبادة‌ الأصنام وما لها من قيم زائفة؛ فكان كثيراً ما ينزوي في كهف، في جبل يشتغل بالعبادة. إلى أن حان بعد أربعين سنة‌ أن قال: إنما بعثت من قبل الله تعالى لأدعو الناس إلى عبادة الله الواحد وترك هؤلاء المعبودات. فكان هذا أمراً بسيطاً: رجل جاء يقول لا تعبدوا هذه الآلهة، واعبدوا إلهاً واحداً؛ ليس له ثروة عظيمة‌ ولا تكنولوجية متقدمة‌ ولا أي شيء؛ إنما هو شاب له صدقه وأمانته‌ يعرفه الناس. فبدأ ببث دعوته وواجه مخالفات شديدة من قبل أمته؛ إلى أن صار الأمر إلى ما تعلمون ولا أريد أطالة الكلام في هذا المجال. فهذا الأمر كان أمراً بسيطاً، رجل جاء‌ وقال لا تعبدوا هؤلاء‌ الآلهة‌ واعبدوا إلهاً واحداً.
لكن آن الأمر إلى أن انتشرت هذه الدعوة‌ في كل الأرض ونشأ جيل متقدم متمدن في أرقى مدارج التمدن والعلم والكمال والأخلاق والمثالية. وإذا كان لهذه الحركة نظير في أيامنا فلا بأس بالإشارة‌ إلى قيام الإمام الخميني(ره)؛ هو عالم كان يدرّس في هذه الحوزة ككثير من المدرسين؛ فقام بواجب شرعي له، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كواجب شرعي على كلّ أحد، وعلى كلّ العلماء، لكن أنتم تعلمون أن أمره قد تفاقم إلى أن بلغ أرجاء‌ العالم وأثّر في كلّ السياسات وفي كلّ المعادلات الدولية.
هناك ينقدح سؤال: هل هذه الحوادث وتطوراتها أمور اتفاقية‌، ليس لها أسباب ولا علل معروفة‌ يمكن أن يتعرف عليها ويستفاد منها، أو لا؟
الذي نستفيد من القرآن الكريم أن هذه الأمور لها سنن ثابتة‌ من قبل الله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}1، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ}2. هذه السنة هي إيجاد ظروف خاصّة لظهور استعدادات الإنسان في شتى الأعصار والأمصار الذي يسميه القرآن بالابتلاء والامتحان والتمحيص وما إلى ذلك. فهذا العالم خُلق لأجل الابتلاء‌، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}3. فمجيء الأنبياء‌ إنما هو لتكميل هذه الدائرة، هذا الإطار الذي يقع فيه الإنسان حتى يظهر استعداداته ويستكمل باختياره ويحصل انتخابه. فلولا هذه الحلقة، حلقة‌ النبوة‌ والبعثة‌ والرسالة النبوية، ما كانت هذه الدائرة‌ كاملة. فنحن بما أننا مسلمون ومصدقون للقرآن الكريم ولهذه السنة الإلهية التي أشير إليها في القرآن الكريم مرات كثيرة، يجب أن نستكشف السرّ الذي أوجب رقيّ‌ أمة وسعادتها في الدنيا ويستتبع سعادتها في الآخرة، والسرّ في انحطاط بعض الأمم الأخرى في النقطة المقابلة لها؛ ما هو السرّ في هذا الرقيّ، وفي هذا الصعود، وفي ذلك الانحطاط.
فحسب ما نستفيد من الآيات الكريمة أن السرّ في رقي الإنسان يكمن في أمرين ـ‌لا اقل منهما‌ـ أمر يرجع إلى المعرفة؛ فإنه يجب على الإنسان أن يعرف موقفه في هذا العالم، وهذا الكون الهائل، وما هو موقف الإنسان في قبال الله تبارك وتعالى؛ وإلى ما يرجع مصيره وكيف يتحقق ذلك المسير، وإلى أي مدى يؤثر فيه إرادته واختياره؟
هذه الأمور التي يجب أن نعرفها، ترجع إلى أمر المعرفة؛ لكن لا يكفي المعرفة‌ بهذه الأمور. فقد كان الكثير من الأناس الموجودون يعرفون كثيراً من الحقائق لكن لا يلتزمون بها ولا يعملون حسب ما تقتضيه تلك العلوم والمعارف. يجب أن يضاف إلى هذه المعرفة أمر نفسيٌ، أمر قلبيٌ، أمر روحيٌ، وهو إرادة‌ الخير، إرادة‌ التقرب إلى الله، ابتغاء مرضاة الله، والإخلاص في العمل، يجمعها كلّها إرادة العبودية‌ لله تعالى. لأنا بعد معرفتنا أننا نحن عباد لله تعالى وأن الله هو خالقنا ومولانا، فيجب علينا أن نلتزم بذلك، فنفعل فعل العبد قبال مولاه. فبعد المعرفة، إذا وجد في قلوبنا هذا الإحساس، هذه الإرادة، إرادة‌ التقرب الى الله، وابتغاء‌ مرضاة الله ـ‌حسب تعبير القرآن الكريم‌ـ تتوفر فينا العناصر اللازمة للترقي، وفي قباله إذا فقدنا العلم والمعرفة الصحيحة وفقدنا الإرادة الخالصة‌ للعبودية‌ لله، كان هناك عامل للانحطاط والسقوط. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}4. "ظلوم" يعني ليس له إرادة‌ العدالة والقيام لواجبه، و"جهول" فاقد للمعرفة اللازمة.
أهم رسالة الأنبياء كانت في هذين الأمرين: أن يجعلوا معرفة‌ صحيحة في متناول أيدي الإنسان حتى يكون على علم ومعرفة‌ صحيحة‌ بالكون وبموقعه في الكون، ربما يعبر عنه حسب المصطلحات الحديثة بـ‌"الرؤية‌ الكونية"؛ والآخر تهذيب النفوس وتزكيتهم لأن يجعلوا حياتهم وقفاً لعبادة‌ الله وابتغاء مرضاته. فبهذين الأمرين يمكن أن نقيّم الأعمال الصادرة عن الأمم المختلفة‌ والشعوب والأديان، حسب القيم الإلهية، ـ‌لا القيم التي يعرفها الغربيون والمستغربون‌ـ القيم الناشئة عن التوحيد، لا القيم الناشئة عن الإلحاد والكفر والشرك.
ينقدح هناك سؤال آخر: إذا كانت أمة‌ فاقدة‌ لحد النصاب في هذين الأمرين، يعني محتاجون إلى معرفة‌ أكثر ومحتاجون إلى إخلاص أكثر، فمن الذي يؤثر في الأمة‌، ويربي الأمة علي هذين الأمرين، يعني يهييء لهم معارف صحيحة‌ ويربيهم ويزكيهم ليكون لهم الإخلاص في النية والسعي وراء مرضاة الله تعالى؟ طبعاً لا يكون جميع الناس في مستوى واحد بالنسبة إلى هذين الأمرين. فالذين يتعين عليهم القيام بهذين الأمرين في الدرجة الأولى هم المعلمون، هم الأساتذة‌، سواء‌ أساتذة الجامعات أو الحوزات العلمية. فإذا كان في أمة معلمون ومربون وأساتذة صالحون يرجى لهذه الأمة‌ الترقي والكمال والسعادة‌ في الدنيا والآخرة‌، وأما إذا كان الأساتذة، وإن كانوا متخصصين في فرع أو فروع من العلوم، لكنهم فاقدون لهذه المعرفة‌ الكونية، يعني لا يؤمنون بهذه الحقائق ، حق الإيمان، بأن الله هو المولى ونحن العبيد، بأن هذه الحياة الدنيا إنما هي مرتبة حقيرة من حياتنا، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ،}5 {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ؛}6 الحياة‌ الدنيا تكون في مقياس محاسباتنا سبعين سنة، ثمانين سنة، مئة سنة‌، وربما نستكثر هذه السنين: "مئة‌ سنة"‌، لكن بالنسبة‌ إلى مقياس العالم مئة‌ وألف سنة‌ كلحظة واحدة بالنسبة إلى مليارات سنين نورية؛‌ ما هو قدر مئة سنة‌ أو ألف سنة؟ أما الحياة الآخرة‌ فحياة‌ أبدية، لا فناء‌ لها ولا نهاية‌ لها، ليس لها نسبة عددية بالنسبة‌ إلى حيوة الدنيا؛‌ لأنه أمر غير متناه والحيوة‌ الدنيا ـ‌كلّما امتدت‌ـ فإنما تكون متناهية،‌ فلا نسبة بين المتناهي واللامتناهي.
هذه الأمور هي التي تسمى في ثقافتنا بأصول الدين: معرفة‌ الله الواحد وهي "التوحيد"، معرفة‌ المعاد، أن الحياة الآخرة‌ هي الحياة‌ الحقيقية للإنسان والحياة‌ الأبدية، وأن الدنيا إنما هي دار مجاز ودار ابتلاء‌ ودار امتحان، مثله بالنسبة‌ إلى الحياة‌ كأيام الامتحان بالنسبة‌ إلى المحصلين. أيام الامتحان، أيام خاصة تمضي وتفنى، إنما هي نتيجة الامتحان تظهر بعد أيام لعدة‌ سنين؛ فهذه الدنيا أيام امتحان، ليس لها شأن أصيل. وبعد هذا يجب أن نزكي نياتنا وإذا شئتم فقولوا أن نرقّي هممنا، فيكون لنا همة‌ عالية في أن لا نقتنع ولا نكتفي إلا برضا الله تعالى، لا يرضي أي شيء من المال والثروة‌ وسائر الأمور، لا نعتني بها اهتماماً. يجب علينا أن نولي همتنا بالنسبة‌ إلى رضى الله تعالى والسعادة‌ الأبدية التي تحصل في ظل رضوان الله تعالى.
وهذا ينتهي إلى أن نكون دائماً على أهبة‌ للتزكية وتضحية أنفسنا في سبيل الحق، وأن نكون جاهزين للاستشهاد، للشهادة وللجهاد. لأن الحياة‌ أمر يمضي ـ‌شئنا أم أبينا‌ـ يمضي بعد أيام. فالأحسن أن تكون حياتنا فداء لحياة أمتنا وسعادة‌ أمتنا ولاعتلاء كلمة‌ الله تعالى. هذه هي النتيجة الطبيعية لهذه المعرفة‌ وآمنّا بأن الحياة‌ الحقيقية هي الحياة الآخرة وآن نكون دائماً جاهزين لتلقي هذه الحياة.
وكيف كان، فالذي أؤكد عليه عند سادتنا الأعزاء الأكابر والأساتذة الكرام أن واجبنا في هذا العصر خصوصاً واجب كبير، وجوبه مضاعف ومؤكد، وذلك بأن نقوم بعد تقوية إيماننا وتزكية‌ نياتنا، أن نقوم بإرشاد الآخرين. وهذه في الحقيقهة هي الخلافة عن الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورثوا العلم، العلوم المأثورة‌ عن الأنبياء‌ هي التي تدور حول هذه المعارف: معرفة الله ومعرفة‌ الحياة الآخرة‌ ومعرفة ما يُسعد الإنسان في هذه الحياة وفي الحياته الأبدية وهو العمل بأحكام الإسلام وإحياء‌ كلمة الله وإعلاء كلمة‌ الله. فيجب علينا أن نعرف حساسية‌ موقعنا في هذا العصر؛ وحسب ظني، لم يكن لأحد من الناس منذ بدء طلوع التاريخ إلى يومنا هذا، حساسية‌ لحياة الإنسان المؤمن مثل حياة‌ المؤمنين في هذا العصر. ويجب علينا أن نشكر الله تعالى أن هدانا للإيمان، وأن هدانا لطريق الحق، والأحسن الخدمة لشعبنا ولأمتنا، وكلّ ذلك بفضل الأسلام ومعرفة‌ معارفه وحقائقه. فأداء لشكر هذه النعمة العظيمة يجب أن نسعى وراء‌ فهم الإسلام فهماً أحسن وأعمق وأوسع، ثم نقوم بتعريف هذه المعارف للآخرين وتوسعتها وتعميقها؛ وبموازاته يجب علينا أن نسعى وراء تزكية نفوسنا وتزكية تلامذتنا وكل الناس الذين يعيشون حولنا. فإذا قمنا بهذا الواجب، ففي الحقيقة أدّينا ما كان علينا لأجل خلافتنا عن الأنبياء‌ والأوصياء ـ‌صلوات الله عليهم أجمعين. قال رسول الله (ص) "رحم الله خلفائي" قال ذلك ثلاث مرات؛ فقال الأصحاب له: يا رسول الله ألسنا نحن خلفاؤك؟ قال لا؛ أنتم أصحابي؛ أنتم على خير؛ ولكن خلفائي يجيؤون في آخر الزمان، يعرفون الخطوط على الأوراق، فيؤمنون بها ويقومون بتعريفها للآخرين وتزكية‌ النفوس على حسب هذه العلوم التي يتلقونها من الكتب؛ فهم خلفائي، يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر.
فيجب علينا أن نُقدّر أنفسنا، أن نعرف قدر نعمة‌ الله علينا وأن نغتنم هذه الفرصة السعيدة‌ التي وقعت في أيدينا، القيام لأجل الإسلام، القيام لأجل اعتلاء‌ كلمة‌ الله {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}7.
ويجب علينا أن لا نغتر بما في أيدي الكفار وأعداء الإسلام من بعض الزخارف الدنيوية. قال الله تعالي: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا}8، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}9. فهذه الأمور وسائل للامتحان، {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}10. فالنعم التي تحت أيدينا وسائل للامتحان وكذلك بعض البلايا التي نُبتلى بها، وغالباً من جرّاء أعمالنا، أنفسنا؛ هي الوسائل الأخرى للامتحان. قال الله تعالي: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}11، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}12، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}13. فربما قصرنا نحن أيضاً في بعض واجباتنا فيجب علينا أن نجبر ذلك بأن نقوم بواجباتنا على ما أوجب الله علينا وبيّنه في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية‌ ـ‌صلوات‌ الله على نبينا وعلى أوصيائه الكرام.


الهوامش:
1. الأحزاب: 62.
2. فاطر: 43.
3. الملك: 2.
4. الأحزاب: 72.
5. العنكبوت: 64.
6. التوبه: 37.
7. التوبه: 39.
8. طه: 131.
9. التوبه: 54.
10. الأنبياء: 35.
11. الشوري: 30.
12. الروم: 41.
13. يونس: 44.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة