لقاءات

محمد أبو عبدالله: هذا ابن ذاك


نظمية الدرويش ..
 الجدل حول الشعر الحديث وحلقات نزع الاعتراف، به ومجلدات المقارنة بينه وبين الشعر الكلاسيكي، كلها نقاشات قديمة نشبت مع أول قصيدة محدثة، ولا تزال تشتعل ما دامت هذه النهضة الشعرية لم تثبت في شكل واحد أو عند أي حدود.
إذًا هو حديث مكرر لا بد منه، ومحدث باستمرار كأي شيئ في هذا العصر، وكأن الأخير لم يشرق على شيء إلا وترك فيه من صفاته؛ السرعة، الاختصار، السهولة، الإتاحة، والمادية، ولعلّ الأخيرة هي الوحيدة من الصفات التي لم تحكم بأنيابها بعد في الشعر الحديث. وبين شعر العصر القديم وهذا اليوم اختلاف وخلاف، جعل القديم في موضع الحاكم، والحديث كمتهم، لم تثبت براءته عند البعض إلى الآن. 
في مرافعة اليوم، شاعر شاب اعتنق شعر جيله ومارسه بجذل، وها هو في لقاء لنا معه يرافع باسمه. محمد ابو عبدالله المولود في المنطقة الشرقية، صاحب حماسة شعرية تشابه روحه الشابة التي أوصلته إلى مرحلة متقدمة في مسابقة أمير الشعراء، ومسابقات شعرية أخرى، هذا والصعود على أهم المنابر الشعرية في البلاد إلى جانب أساتذة في الشعر. 


الحر ابن الكلاسيكي ووريثه الشرعي. 
يبدأ الشاعر محمد أبو عبدالله حديثه معنا عن كون الحديث عن العلاقة بين القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحديثة نفسه يطول ويقصر بحسب ماهية إيمان المتحدث فعلياً بالشعر الحديث من عدمه، فيقول: "وكما أن الولد يحمل من أبويه صفات تجعل العلاقة بينهما موجودةً ضمنياً، فهو أيضاً يريد أن يبث صفاته الخاصة ليثبت للعالم أنه موجود، وفي الحديث عن الشعر الحديث والشعر الكلاسيكي يجب أن نعي أولاً أن هذا ابن ذاك".
يشير أبو عبدالله في هذا السياق أيضاً إلى أن الشعر الحر حمل البلاغة معه منذ ولادته، مهما اختلفت الأقاويل حول هذه الولادة، إن كانت من الشاعر بدر شاكر السياب، أو من نازك الملائكة، ثم ما لبث أن بدأ يبحث عن شخصيته الخاصة وتكوينه الذي يميزه عن أبيه، يتابع الشاعر بالقول: "فتميز الشعر الحر على مستوى التركيب والتوظيف، ودخل في أبواب الترميز إلى أن أصبح جريئاً في خوض أي بحر بالانفعال المناسب لصاحبه، وهذا ما لا نجده في القصائد العمودية سابقاً، حيث أنها لا تطلق العنان لحريتك وانفعالك، فالشاعر فيها ملزم بعدد محدد من التفاعيل وتلاحقه قافية تجبره أن يضعها على رأس كل بيت".
وجاء النثر الذي خلع كل القطع التي تحتفظ برائحة الخليل، وبهذا بدأ متحرراً من الوزن والقافية، ما جعله متورطاً بنفسه، فكيف يكون متميزاً وقد خلع كل ما يميز الشعر العمودي والشعر الحر، لذلك نجد ميزة النثر أصبحت في الاقتراب من الموضوع أكثر، والالتحام معه ربما، وزيادة جرعة العمق والرمزية برأي الشاعر محمد أبو عبدالله. ولكن لم يغفل الأخير رغم حماسة للحداثة أن يذكر مشوهيه بالقول: "للأسف وصل بعض الشعراء لمرحلة من العبثية التي لا تعنى إلا  بتعمد خلق الشيء الغريب ومزج ما لا يتمازج شاعرياً،  ما جعل شخصية النثر مشوهة عن العاطفة الصادقة من جهة، وتائهةً بين كثرة النصوص التي لا تتعدى كونها خواطر، ويصر أصحابها بتسميتها قصيدة نثر".


التفلت من كل قيود الشكلية 
ويعتقد الشاعر أن البلاغة من أهم ملامح الشعر بجميع أشكاله، ويتابع: "ولذلك نقلها الشعر الحديث معه في مختلف مراحله، لكنه لم ينقل معه القوالب الشكلية للشعر الكلاسيكي حتى تتحرر العاطفة بعيداً عن أي قيد قد يؤثر عن انفعالها الطبيعي، وعليه لزمه أن يبحث عن ما يعوضه عن هذه القوالب الشكلية فوجدها في المضمون، وإلا فإن لم يكن وجدها وجب عليه العودة للقالب الأب، فالبقاء بدون قالب مع عدم الاستفادة من هذا التحرر سيخرج لنا ابنًا مسخاً ليس هو الأب وليس هو ما يستحق أن يكون الإبن الشرعي له".
ويشير الشاعر الشاب إلى أن الشعر الحديث ورغم بساطته أحياناً، إلا أن إشاراته ليست مرآةً عن ذات المفردة تماماً، وربما البتة! فقد أصبحث دلالات المفردة أكثر اتساعاً على حد تعبيره، ناهيك عن دلالات الجملة: "وهذا بكل تأكيد مما جعل الشعر الحديث يمشي بهدوءٍ واثق الخطى، كما أن المتلقي لا يكون متلقياً سلبياً  كالسابق، بل يكون مشاركاً في إنتاج النص، فهو يفكر، ويجيّر النص اعتماداً على خبرته وتجربته الخاصة، ولذلك قد نرى اختلافاً على تحديد إشارات قصيدة أو جملة أو حتى مفردة في النص الحديث". وهذه من أعظم إيجابيات القصائد الحديثة في نظر أبو عبدالله. 


في الرد على الاتهام
تتهم المدرسة الحديثة من قبل مناصري الشعر التقليدي، بأنها مدرسة الخلخلة والهدم والانقلاب على الموروث والتفلت التام من حيث الصورة والمضمون، وصولاً إلى الكفر ربما في بعض العبارات، يحدثنا الأستاذ محمد عن ثمار قراءاته ومناقشاته مع بعض الشعراء من الجانبين فيقول: "أن كل وجه جديد مغاير للموروث لن يُقابل بأحضان مفتوحة ممن فتح قلبه على موروث ثم آمن به، فهو ما زال يؤمن أن الشعر هو الكلام البليغ الموزون والمقفى والصادر عن عاطفة صادقة مؤثرة، وأن نقص أي عنصر من عناصر تكوين الشعر يخرجه حتى من دائرة تسميته بالشعر، فما بالك إن تمادى الشعر الحديث بحريته؟!، بكل تأكيد سيكون من وجهة نظر الكلاسيكيين هداماً منقلباً على الموروث، وأن رحلة بحثة عن التجديد ستكون تغربا ًوربما كفراً!!". 
ومن وجهة نظره أن الشاعر لا بد أن يكون حراً، حراً في انفعالاته وتوظيفاته، لأنه مهما تحرز من رأي المدارس الكلاسيكية، فإن الكلاسيكية ستجد مكاناً توجعه منه على حد تعبير الشاعر، وذلك لأن فكرة الوجود هي المشكلة، لا فكرة ماهية هذا الوجود ويتعجب بالقول:" فلماذا التأثر والتحرز إذن؟!"


من جهة أخرى فإن مناصري الحداثة يتهمون الشعراء التقليديين بأنهم ضيقوا الأفق وأن الوزن عائق أمام المعنى، وأن متطلبات العصر بحاجة إلى نوعٍ جديدٍ من الشعر غير الذي كان منذ مئات السنين، وفي هذه السياق يعتبر الشاعر أن ولادة الشعر الحديث كانت من أجل التمرد على القيد الذي يحد من حرية انفعال الشاعر، فالشاعر قد يملك العاطفة لكنه لا يملك المساحة، لهذا كان البحث عن المساحة مهماً جداً حتى تنزلق العاطفة كما يريدها الشاعر من دون تشويه يجبرها عليه عدد معين من التفاعيل أو قافية أو حتى وزن، يدعم الأستاذ محمد رأيه بقول السيد مصطفى جمال الدين في قصيدته (إلى الطليعة الشاعرة):
"لم يكن للخليل حق على الشعــر ولا بيعةٌ له في الرقابِ"
يعترف الشاعر أبو عبدالله أن الشعر الكلاسيكي يعتبر أماناً للمنتج الأدبي، فيقول: "كثير من الموروث القديم محفوظ لأنه موزون أو موزون مقفى، لأن هذا الإيقاع يستدعي العاطفةَ بسهولة أكثر مما لو كان الشعر فارغاً منه، ما بالك لو أن إيقاع القافية كان موجوداً، بالتأكيد أن سهولة النقل ولذته ستكون أوسع من المجرد من الوزن والقافية، والشاعر الكلاسيكي أحياناً يريد أن يخرج من هذا القالب لكنه يخاف على ابنه فيودعه السجن خوفاً عليه!" هذا ويذكر الشاعر أبياتًا كتبها قبل أيام في هذا المعنى: 
في الشعر لي سجنٌ، ولي سجّانُ
لكنّ قسوتهُ عليّ أمانُ
متورطٌ بالضيق، أعرفُ أنهُ
وطنٌ حنونٌ، ساذجٌ، وجبانُ
لم يدّخر جهةً تليق بلهفتي
إلا وجفّت حولها الشطآنُ
مسكينةٌ لغتي تحرر نفسها
فتضيق من حريتي الأوزانُ
وأنا الذي آمنتُ بي، وشككتُ بي
حتى استبدَّ الشكُ والإيمانُ
هذي البحور قبور  عاطفةٍ تعاني
والقوافي كلها أكفانُ
لكنها من يحفظ الألوان لي
وبدونها تتشتت الألوانُ.


في رد الاعتبار 
ويقف الشاعر وقفة منصف ليقول; القصيدة الكلاسيكية تلتزم بالوزن والقافية، والقصيدة الحديثة تحررت من القافية وعدد التفاعيل في الشعر الحر، وتحررت من الوزن في النثر، إلا انه لا يظن أن مساحة الحرية استغلها من يكتبها بالشكل المفترض أن تستغل به، فالبعض بحسب أبو عبدالله يجد في الشعر الحديث سهولةً للحرية في خوض ما لا يخاض في الشعر العمودي، بجملة أخرى قد يقول الشاعر الحديث أن عنده من انفعالٍ ما لا تسعه القصيدة الكلاسيكية، بينما يجزم أبو عبدالله أن هناك كثيرين لبسوا عباءة النثر وحتى الحر لأنهم لا يجيدون لبس هذا الثوب العربي الصعب، ويتابع بالقول: "وبالتالي توجهوا لما هو أسهل من هذا الضيق ليس إلا، وليس لحجم انفالاتهم دخل في الموضوع".
هذا ونجد كثيراً من الشعراء العموديين يحاولون إدخال تكنيكات الشعر الحر على العمودي، والنثر على الحر، بل والنثر على العمودي، وهنا يرى شاعرنا أن بعضهم أحرز تقدماً ملحوظاً مما أنعش القصيدة العمودية في الوقت الآني من جديد وأعاد لها هيبتها، وهذا بكل تأكيد ورط القصيدة الحديثة، مما يلزمها أن تبحث عن ما يميزها مجدداً فحتى ما كان يميزها لم يعد يميزها ولم يعد يعطيها العذر في الابتعاد عن أثواب الأبوين بتعبير أبو عبدالله.


استيعاض وتعويض 
"طبعاً المساحة الواسعة في الشعر الحديث، مثلما أعطت الدهشة وجوداً مغايراً عنه في الشعر الكلاسيكي، كذلك أعطت ابتكارها صعوبةً بالغة لأنها مجردةٌ من الإيقاع، ولذلك من يكتب الشعر الحديث إن كان يؤمن بنفسه وبأسباب تركه للقيود التي تحد من حريته سيكون عمله شاقاً في إنتاج النص". بهذه الكلمات يريد الشاعر أن يقول إن القصيدة وإن كانت حرةً من قيد، إلا أن معاناة تحريرها كبيرة جداً، بمعنى أن الحر وإن تخلص من القافية فهو أصعب من العمودي، إن أراد الشاعر أن يكتبه بقوامه غير المشوه، وكذلك النثر وإن تخلص من الوزن فهو أصعب من الحر لأن التركيز فيه عالٍ جداً بحسب أبو عبدالله
"نبوءة وهواجس غفران" هو عنوان ديوان الشاعر الشاب أبو عبدالله وفيه نجد مسوغات أكثر لأهمية التحديث الذي طرأ على القصيدة العربية، ففيه من المكونات الشعرية التي تجعل من خلطة الفيض الوجداني مع جرعات من التعبير الحسن، بغض النظر إن كان موزونا أم غير موزون، أو مقفى حتى، تجعلها خلطة سحرية لا تقل إدهاشًا من الشعر الكلاسيكي، وترفع من معايير الحديث منه، فلا يضعه بين متناول الهواة.
 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة