لقاءات

الشيخ محمد العمير: العبادات خريطة طريق، والصوم ثمرة التقوى


نسرين نجم ..
شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والطاعات والعبادات، شهر الله عزّ وجل، ولأننا بضياقة الخالق البارئ الكريم الرحيم، علينا أن نحسن من سلوكياتنا وتصرفاتنا، وعلينا أن نستثمر هذه الفرصة الذهبية السنوية للتوبة وللبدء بجُملة من التغييرات، فالصيام ليس عادة بل عبادة تحمل في طياتها الكثير من المضامين والقيم الإنسانية الراقية، ولربما يسأل البعض لماذا نصوم؟ وما الفائدة منه؟ أسئلة عديدة حملناها إلى سماحة الشيخ محمد العمير:


* فلسفة الصوم:
وردت في القرآن الكريم آيات تتحدث عن فريضة الصيام، بأنها من المرتكزات الرئيسة في الإسلام، فسألنا سماحة الشيخ محمد العمير عن أبعاد الصوم، فلماذا نمارس هذه الفريضة؟ فأجاب: "إن الصوم – كسائر العبادات- تشتمل على حكمة في تشريعها، فكل عبادة يختبئ وراءها مصلحة للعبد، والعبادات بأكملها تشكل خريطة طريق نحو الحصول على ملكات روحية وسلوكية عالية. فنحن نمارس هذه العبادة تقرباً لله تعالى، ورغبة في الوصول إلى الهدف الحقيقي من العبادات عمومًا والصوم خصوصًا.
يقول تعالى متحدثًا عن الحكمة المرجوة من الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). إذن أحبتي: لا عبادة بدون غاية". وانطلاقًا من هذا الكلام، هل بإمكاننا القول بأن للصيام فلسفة خاصة؟ يقول سماحة الشيخ: "نعم، بدون أدنى شك. إن هناك فلسفة عميقة للصوم عبّرت عنها الآية المباركة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وهذه الفلسفة والغاية لها طريق متسام نحو الله تعالى، وله محطات للوصول إلى النقطة النهائية التي تقع في النهاية. فالصوم إمساكٌ، وفي الإمساك تدريب للعبد على أن يقلع عن الخطيئة والصفات السيئة في وقت وزمن محدد بكامل اختياره، فهو يقوي جهاز المناعة الروحي عنده أولًا، ويثبت لنفسه بأنه قادر على تجاوز الخطيئة ثانيًا. كما أن هناك سر يحدثنا به النبي (ص) بقوله: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق فضيقوا مجاريه بالجوع. فالجوع ممارسة جسدية لمساندة الروح في التغلب على النزعات الشيطانية".

في ظل ما نعيشه من سيطرة العالم المادي، والمغريات التي تحيط بشبابنا من كل حدب وصوب، كان لا بدّ من السؤال، هل تحولت فريضة الصيام من عبادة إلى عادة؟ وما هي الأسباب؟ يعتبر سماحة الشيخ أنه للأسف: "نعم، إلى حد كبير. وهناك جملة من الأسباب، أهمها:
1-  التغافل عن البعد الروحي للصوم، أو قلة التثقيف فيه.
2- الاندماج مع الجو الإعلامي الذي تصنعه وسائل الإعلام المختلفة، حيث ارتبط شهر رمضان المبارك بالمسلسلات والدراما المتنوعة، بدلاً من ارتباطه بالمسجد والقرآن والدعاء.
3- عدم تعديل البرنامج العبادي بما يناسب شهر رمضان المبارك، وإنما يسير الصائم على ما تعود عليه من الاكتفاء بالواجبات.
وما نذكره في الصوم بعينه صحيح في بقية العبادات التي تحولت إلى عادة فردية أو اجتماعية".


* أبعاد الصوم الفردية والجماعية:
للصوم فوائد كثيرة على الصعد كافة، ولكن لربما قد يسأل أحدهم، ماذا سأستفيد على الصعيد الاقتصادي والنفس الاجتماعي؟ عن هذا السؤال يجيب الشيخ العمير: "لا شك بأن الصوم بوابة التواصل مع الذات والآخر. مع الذات، حيث يكتشف الإنسان نقاط القوة عنده حين يجرب الإقلاع عن المحظورات، كما يكتسب عادة رائعة جديدة، أهمها ترميم العلاقة مع الله تعالى وتقويتها، والمواظبة على المناجاة المتوزعة على ليالي وأيام شهر رمضان المبارك.. أما التواصل مع الآخر، فالصوم في شهر رمضان المبارك له نكهة اجتماعية مميزة، حيث تزيد الرغبة في الصدقة والتواصل والتكافل الاجتماعي، وهذا من أسرار الصوم. وقد أشار النبي (ص) إلى التواصل مع الذات والآخر بقوله:
وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الإسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ، وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صلاتِكُم‏، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.
إنها كلمات رائعة تختصر البرنامج العبادي والاجتماعي في هذا الشهر الشريف".

شهر رمضان المبارك هو فتح صفحة جديدة في حياة الفرد، فكيف يمكنه استثمار ما استفاد منه في هذا الشهر لبقية الأشهر؟ يرى سماحة الشيخ بأنه: "سؤال في غاية الأهمية. فعلينا أن نصوم هذه الأيام بنية الامتلاء الروحي الذي يمكنه أن يتوزع على النفس طيلة أيام السنة، وأن نصوم بنية بناء جهاز مناعي قوي لتحصيل (التقوى) التي هي ثمرة الصوم، فتكون هي الملكة التي تضمن الإقبال الدائم على الله تعالى. وهذا كلام في غاية السهولة، لكن الصعوبة تتجلى في تطبيقه عمليًا.


ولي هنا عدة اقتراحات:
الأول: الاستمرار على البرنامج المعتاد في شهر رمضان، من قراءة القرآن والالتزام بالتراحم الاجتماعي مثلًا، وعدم تغييره بعد الشهر الشريف، فتستمر بذلك الروحية الرمضانية.
الثاني: أن يمارس الإنسان في هذا الشهر التدرج في تنمية برنامجه الروحي، فيبدأ متدرجًا في قراءة القرآن وبالالتزام بالنوافل، خصوصاً صلاة الليل، والمناجاة حتى تتحول هذه الأعمال إلى برنامج مستحكم يصعب التخلي عنه.
الثالث: أن لا يتغير البرنامج اليومي في شهر رمضان تغيرًا جذريًّا ، فلا يأخذ طابع النوم والخمول والكسل، بل يكون قريبًا من الأيام الأخرى، ليكن من الطبيعي لهذا الجسد ولهذه الروحي أن تستمر في البرامج الروحية".
بعض الأهالي قد يعانون مع أبنائهم سيما المراهقين منهم في تعزيز مبادىء الصلاة والصوم، فكيف يمكنهم أن يحفزوا أولادهم على القيام بهذه الواجبات؟ يرى سماحة الشيخ محمد العمير: "إن عالم المراهقة يمتاز عن السنوات السابقة له. فالسنوات السابقة للفتى تكون قريبة المحاكاة لسلوك الوالدين والبيئة المؤثرة، فمن السهل أن ينجذب الفتى قبل المراهقة للصوم والعبادة تأسيًا للأنماط السلوكية التي يتأثر بها. أما في سنوات المراهقة لا بد أن نضيف إلى السلوك العملي والتعليمي للوالدين والبيئة، عنصرًا مهمًا : وهو عقلنة العبادة والبحث عن فلسفتها وآثارها على الفرد والجماعة.
ففي المراهقة يبحث الشاب عما يقنعه ثم يبحث عن انتمائه وجماعته، وعلى المقربين منه أن يناقشوه في الفضاء الواسع معرفيًا وسلوكيًا، وأن تقلل الخطوط الحمراء في الحوار حتى ينتعش بالدين ويقتنع به، فتكون تلك القناعة سبيل قوته العلمية وبالتالي السلوكية".


* التدين الحقيقي هو البحث عن رضا الله تعالى:
البعض يمتنع عن فعل الحرام في شهر رمضان ثم يعود إلى هذا العمل بعد الانتهاء من هذا الشهر الفضيل، ما هي نصائحكم لهؤلاء؟ يجيب سماحة الشيخ محمد العمير: "إن هذا بعض ملامح الانفصام داخل شخصية المسلم. إننا نشد على يديه بأنه احترم الشهر الفضيل، وأجواء التدين فيه، لكن: لا بد من معرفة فكرة مهمة، وهي أن الدين غير متجزئ، بل هو شمولي لكل الحياة، وأن التدين الحقيقي هو البحث عن رضا الله تعالى عبر التزام أوامره واجتناب نواهيه في كل الحياة.
وإذا كان شهر رمضان هو الزمن الذي اختص به الله تعالى (شهر الله)، فاحترمناه بعدم المعصية؛ فإن العالم كله ملك لله، والزمن كله ملك لله تعالى، لا مجال فيه لازدواج المعايير، والقرآن الكريم يحدثنا عن الازدواج بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)؟ وهذه المشكلة سارية في الكثير من المجتمعات والفئات، فتجد الفتاة تصلي لكنها غير مقتنعة بالحجاب! كيف ذلك وكلها أوامر الله عز وجل؟"
فكم هي مهمة ومفيدة بناء علاقة مع الله عز وجل سيما في ظل الأحوال التي نعيشها من انتشار الفساد بكل أشكاله وألوانه؟ يقول سماحة الشيخ: "إن العلاقة مع الله تعالى هي أساس الإيمان به إلهًا وربًا وخالقًا. فبعد الإيمان به تعالى ينبغي للإنسان أن يبحث عن وسائل التقرب منه، وشكره على كل نعمه، وعن أسلوب الابتعاد عن غضبه. فهو رب العالمين المستحق لكل أنواع الشكر والعبادة والطاعة. ودائرة (الطاعة) تتسع لكل سلوكيات الإنسان، حيث إن الرؤية الإلهية تحتم على الإنسان أن يكون عبدًا مطيعًا في كل أحواله، لا يتجاوز أوامر الله تعالى ونواهيه، وإلا كان ذلك خلاف (العبودية).
لكن ذلك يبدو صعبًا في البيئة غير الدينية، بل حتى في البيئة الدينية التي تختلط فيها المفاهيم والسلوكيات.
لذلك فإن العلاقة الحميمة مع الله تعالى ستورث الإنسان الرغبة في الوصول إلى رضاه، والرغبة في التقرب منه، والرغبة في حماية النفس عن كل فكر أو سلوك يبغضه عز وجل. إننا في عالم برز (الفساد) كله إلى (الخير) كله، على كل المستويات، حتى باسم الدين والتدين والالتزام، ومن هنا جاءت أهمية الحصول على (البصيرة) التي هي من ثمار العلاقة مع الله تعالى، فيفرق الإنسان بين الحق والباطل. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). فالفرقان هو نتيجة التقوى التي يحصل عليها العابد من خلال عبادته وعلاقته الصحيحة مع الله تعالى".

وإلى جانب الأهل، فمن الضروري أن يكون هناك خطاب ديني يجذب الشباب، فهل يحتاج الخطاب الديني إلى التجديد ليكون قريبًا من هذه الفئة؟ يقول سماحة الشيخ محمد العمير: "أعتقد بأن الخطاب الديني لابد أن يتطور بشكل مستمر على مستوى الأدوات الإعلامية، أو المضامين. فالدين الإسلامي بإمكانه قيادة الحياة، لكن هذا يحتاج إلى براهين وأساليب وتجارب مختلفة تبرهن على هذه الحقيقة، فـ(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، ومعنى أنه الدين الخاتم أنه يملك خصائص الاستجابة لجميع متطلبات الإنسان فيما تبقى من زمن إلى يوم القيامة. ومع ازدحام المقولات الليبرالية وغيرها، يجب على علماء الدين والمثقفين أن يقدموا الدين بالطريقة البرهانية والعملية التي تجذب العالم للخصائص الإنسانية في الدين والمتدينين. وأن يفتحوا أبواب الحوار الفكري حول الأديان من دون أي تخويف أو أدلجة، حتى تنفتح الأجيال على المسائل العقائدية والفقهية والأخلاقية وكل المسائل الدينية بذهنية واثقة مقتنعة.
والحمد لله بدأت حركة الإعلام تشهد تنوعًا واختلافًا في التبليغ للدين وأفكاره، ولم تبق المسألة كما في السابق حكرًا على الخطاب التقليدي".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة