علمٌ وفكر

هدف الخلقة (1)


الشهيد مرتضى مطهري ..

تعتبر مسألة (هدف الحياة) إحدى المسائل الأساسية التي ينبغي أن يركز عليها الفكر الإنساني، فلقد ارتسم أمام الإنسان دائماً هذا السؤال:
ما هو الهدف من هذه الحياة؟ أي، لأي شيء يعيش الإنسان؟ أو ما هو الهدف الذي ينبغي أن يستهدفه الإنسان من حياته وفي هذه الحياة؟.
ومن جانب آخر فإنّا إذا حاولنا أن نبحث الموضوع من وجهة النظر الإسلامية للزمنا أن نطرحه على النحو التالي: (والواقع أن جذور البحث ترجع إلى هذه النقطة بالخصوص).
ما هو الهدف من إرسال الأنبياء؟ وما هي الغاية الأصلية لذلك؟.
من المسلم به أن هدف بعث الأنبياء لا ينفصل – بحال – عن الهدف الحياتي لأولئك الذين بعث إليهم الأنبياء ليرشدوهم، فإنّ الأنبياء بعثوا ليقودوا البشرية ويوصلوها إلى هدفها النهائي.

ولو تقدمنا مرحلة أخرى لوصلنا إلى بحث آخر حول (الهدف من الخلقة) ومن خلال البحث عن مسألة (هدف الخلقة) تطرح مسألة خلق الأشياء، ومن جملتها خلق الإنسان والهدف منه، وهنا يجب أن يوضح الموضوع على النحو التالي:
إنّ تعبير (هدف الخلقة) ما هو؟ تارة يطلق ويراد منه التساؤل عن هدف الخالق من عملية الخلق هذه، أي ما هي الدوافع والعوامل التي دفعته لهذه العملية؟ وحينئذٍ نقول: إنّ هذا التساؤل – بهذا العرض – لا معنى له، ولا يمكن أن يكون لعملية الخلق هنا، هدف، أي لا معنى لأن يستهدف الخالق تحقيق شيء من عملية الخلق. فإنّ الهدف هنا يعني العامل والدافع المحرك للفاعل ليقوم بهذا العمل، ولولا وجود هذا العامل والدافع لما قام به.
إننا لا نستطيع أن نقول بوجود هدف وغرض في المجال الإلهي، بمعنى أنّ الفاعل يريد عبر فعله أن يصل إلى غرض معيّن، وأن ذلك الغرض هو الذي حركه نحو هذا الفعل، أي أن هناك شيئاً دفع الفاعل ليكون فاعلاً، يسعى لتحقيق ذلك الشيء. وهذا يستلزم نقص الفاعل ومثل هذا الاستهداف إنما يتصور في الفاعلين بالقوة والمخلوقات، أما في الخالق فهو غير متصور، إنّ مثل هذا الاستهداف يرجع إلى الاستكمال، بمعنى أنّ الفاعل يسعى عبر عمله هذا للوصول إلى شيء يفقده.
ولكن – وتارة أخرى – يتركز الحديث عن هدف الخلق لا على غاية الفاعل وهدفه وإنما على هدف الفعل ومعنى غاية الفعل. إن أي فعل – نركز عليه – لابدّ أن يكون باتجاه هدف معين، ونحو كمال خلق لأجله، فالفعل خلق ليصل إلى هذا الكمال، لا أنّ الفاعل عمل هذا العمل ليصل هو إلى كماله، بل ليصل الفعل إلى كماله، أي أن نفس الفعل يسير باتجاه الكمال.
فإذا قلنا أن ناموس الخلقة يقضي بأن أي فعل يتحرك منذ بدئه باتجاه الكمال، فإنّه – والحال هذه – تكون للخلقة غاية.
وهذا هو الواقع، فإن أي شيء يوجد له – أساساً – كمال منتزع، وأنّه خلق ليصل إلى كماله المنتزع، وأن ناموس هذا العالم – بشكل عام – قائم على أن أي شيء يبدأ وجوده من النقص، وتكون مسيرته الكمال، لكي يصل إلى كماله اللائق والممكن.

إنّ مسألة (ما هي الغاية من خلق الإنسان؟)، ترجع إلى التساؤل عن (ماهية الإنسان)، وما هي الإمكانات الكامنة في الوجود الإنساني، وما هي الكمالات الممكنة له؟ لذا يجب البحث عن الكمالات التي يمكن للإنسان أن يبلغها.
إنّ الإنسان خلق لتلك الكمالات، وطبيعي أنّ الحكمة – بهذا الاعتبار – تعبر عن أن يكون عمل ما لأجل هدف معيّن، فلا يختلف الحال إذا عبّرنا عنها بالحكمة أو الغاية.
وعلى هذا فلا داعي لأن نبحث بشكل مستقل عن غاية الخلقة الإنسانية وهدفها، وإنما يرجع هذا البحث إلى التساؤل عن هذا الإنسان.
ما هو؟ وما هي الإمكانات الكامنة فيه؟.
وبعبارة أخرى: ما دمنا ننظر للبحث من زاوية إسلامية لا عقلية فلسفية، فإن علينا أن نعرف نظرة الإسلام للإنسان، والكمالات التي يمكنه أن يبلغها في التصور الإسلامي.
وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان، ومما يتفق الجميع عليه أنّ الأنبياء جاءوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.
إنّ في حياة الإنسان – في الواقع – نوعاً من الخلأ والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي ليكون قادراً على التحرك باتجاه مجموعة الكمالات الممكنة له. فكون الهدف من بعثة الأنبياء هو تكميل الإنسان وإيصاله إلى غاية خلقته بشكل عام، أمر لا ينبغي البحث فيه لأنّ الكل مسلّم به.
كما إنّه لا مجال للبحث في ماهية الهدف الحياتي – بشكل عام – لكل فرد من الزاوية الفردية، فإنّه – وحسب ما يمكننا أن نكون وماهية الاستعدادات المتوفرة في وجودنا بالقوة التي نستطيع أن نوصلها إلى المرحلة الفعلية يكون هدفنا الحياتي مطابقاً لذلك تماماً.
إلا أنّ هذا المقدار من البحث يبقى كلياً مبهماً ويلزمنا حينئذٍ أن نعود إلى القرآن ليحدثنا – بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً – عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكر لنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان!.

إننا – في الغالب – نتحدث عن المفهوم العام – وهو صحيح بدوره، فنقول: إنّ الإنسان خلق للسعادة، وأنّ الله لا هدف له من خلق الإنسان، ولا يصله نفع من ذلك وإنما خلقه ليصل إلى سعادته، منتهى الأمر أنّ الإنسان يقف في مرتبة من الوجود وموضع يجب معه أن يختار سبيله بكل حرية، وأنّ الهداية الإنسانية تكليفية وتشريعية لا هداية تكوينية وغريزية وجبرية.
ولمّا كانت له حرّيته فإنّ الإنسان بعد أن هدي السبيل قد يحسن الاختيار وقد يسيء ذلك. (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).
وهذا أمر صحيح بلا ريب ولكن أين يشخص القرآن هذه السعادة الإنسانية.
يقال – عادة –: إنّ الهدف من خلقة الإنسان، والذي ترتهن به السعادة الإنسانية، وبالتالي يكون الهدف من بعثة الأنبياء – بالطبع –، هو تقوية الإنسان في جانبي (العلم) و(الإرادة) فالله خلق الإنسان للعلم والمعرفة – وكماله في معرفته الأكثر – كما خلقه للقدرة ليحقق ما يريد، فتقوى إرادته ويصبح قادراً على تحقيق ما يشاء.
وعلى هذا فإنّ الهدف من خلق حبة الحنطة (أو ما هو استعدادها) هو أن تكون بشكل نبتة الحنطة، وإن سعادة الخروف – في حدها الأقصى – تكمن في التهامه علفه وصيرورته سميناً، أمّا ما في إمكان الإنسان فهو يعلو فوق هذه المسائل وهو أن (يعلم) و(يقدر) وكلما علم أكثر وقدر أكثر، كان إلى الغاية والهدف الإنساني أقرب.
وتجدهم تارة يقولون أنّ الهدف من حياة الإنسان هو السعادة، بمعنى أن يقضي الإنسان نصيبه من الحياة الدنيا بشكل أفضل وأسعد... يتمتع أكثر بمواهب الخلقة والطبيعة، ويقلل من تأمله فيها، سواء من جانب العوامل الطبيعية أو من جانب أمثاله من أبناء نوعه الإنساني، وليست السعادة شيئاً غير ذلك.
فالهدف من خلقنا، هو أن نستفيد في هذه الدنيا من وجودنا ومن الأشياء التي حولنا غاية الاستفادة، أي أن نحصل على (الحد الأعلى من اللذة) و(الحد الأقل من الألم).
وحينئذٍ فإنّ الأنبياء جاءوا ليحققوا هذا الغرض، فتكون حياة الإنسان قرينة للسعادة، أي الحد الأكثر من اللذة الممكنة والحد الأقل منن الألم الممكن – وهو الهدف، وإذا كان الأنبياء قد عنونوا مسألة الآخرة بعد ذكر مسألة (الحياة)، فإنما ذلك لأنهم عينوا سبيلاً للسعادة الإنسانية. وبالطبع فإن سلوك هذا السبيل يستلزم ثواباً، كما أن مخالفته تستدعي عقاباً خاصاً. ومن هنا جاءت الآخرة تبعاً للدنيا، كما أن كلّ جزاء يتبع وضع أي قانون، فلكي لا تكون القوانين في هذه الدنيا عبثاً ولغواً – خصوصاً وأنّ الأنبياء لم يكونوا قوة تنفيذية ولم يستطيعوا أن يثيبوا أو يعاقبوا الأشخاص – فقد طرحوا مسألة عالم الآخرة لكي يعاقب المذنبون ويثاب المحسنون إلا أننا لا نجد مثل هذا في القرآن الكريم.

إنّ القرآن يصرح في موضع منه (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، فغاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ(الجن) هي العبادة.
وربما كان هذا أمر صعب القبول، فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له، وما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة ولكن القرآن – على أي حال – يذكر هذا الموضوع بكل صراحة (أي أنّ العبادة هي غاية الخلق الإنساني).
وعلى العكس من النظرة السابقة التي تجعل الآخرة أمراً طفيلياً تبعياً، تصرح بعض الآيات بأنّه لو لم تكن القيامة لكان الخلق عبثاً، وهذا يعني أنها جعلت بمنزلة الغاية، وقد تكرر هذا المفهوم في القرآن الكريم كثيراً.
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115).
والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له في قبال الحكمة، فيأتي الإنكار بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة ولذا فهذه الخلقة عبث وخواء، ثمّ يأتي عطف البيان (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) وهذا يعني أنّه لو لم يكن هناك رجوع إلى الله فالخلقة عبث.
وإنّنا لنجد القرآن يكرر التقارن بين مسألة القيامة من جهة، ومسألة كون الخلق بالحق، وعدم الباطل واللغو واللعب فيه، وهو في الواقع نوع من الاستدلال.

ذلك أن أحد أنماط الاستدلال القرآني على الآخرة هو الاستدلال اللمي – حسب المصطلح المنطقي –، بمعنى أنّه بعد الإيمان بوجود إلهٍ لهذا العالم، وأنّه لا يفعل عبثاً، وأن عمله إنما هو بالحق ولا مجال للباطل واللعب فيه، نعم، بعد الإيمان بأنّ الخليقة لها خالق حكيم، يأتي الإيمان بالرجوع إلى الخالق، في الواقع أنّ القيامة والرجوع إلى الله هي التي تبرر خلق هذا العالم وهذا ما يركز عليه التعبير القرآني وأننا لن نعثر في القرآن الكريم على ما يوحي بأنّ الإنسان خلق ليعلم أكثر ويقدر أكثر لكي يصل إلى هدفه حين يعلم ويقدر، وإنما خلق الإنسان ليعبد الله، وإن عبادة الله هي الهدف، فلو أنّ الإنسان علم وعلم أكثر، وقدر وقدر أكثر، ولم تكن في البين معرفة الله التي هي مقدمة العبادة، ولم تكن هناك عبادة الله، فإنّ الإنسان لم يخط على طريق هدف الخلقة ولا يُعَدُّ من وجهة نظر القرآن إنساناً سعيداً. أما الأنبياء فقد جاؤوا ليوصلوا البشرية إلى السعادة وهي في نظرهم عبادة الله.
وبهذا المعنى فلن يكون الهدف الأصلي من الحياة في منطق الإسلام – بالطبع – شيئاً سوى المعبود، فالقرآن يريد صياغة الإنسان ويمنحه هدفه وغايته، والهدف الذي يريد أن يوصل الإنسان إليه هو الله لا غير، وأي شيء غير ذلك ليس إلا مقدمة لا أصالة له ولا استقلال، وليس هو الهدف الأصلي.
فالآيات التي تصف الإنسان الكامل، أو تتحدث على لسان هذا الإنسان، تعرف هذا الإنسان بأنّه الذي حدد هدفه بوضوح واتجه نحوه وعمل لأجله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة